ما بقي من إيوان‮ كسرى

ما بقي من إيوان‮ كسرى

05 نوفمبر 2020
إيوان كسرى في 1968 (Getty)
+ الخط -

ربما لا يوجد مبنى يحتل مكاناً أهم من إيوان كسرى في المخيال الإسلامي التقليدي؛ فهذا المبنى‮ ‬المشهور‮ ‬كان قصراً‮ ‬رئيسياً‮ ‬للاستقبال في‮ ‬طيسفون‮ ‬‭،‬Ctesiphon‭‬‮ ‬العاصمة الساسانية الواقعة على نهر دجلة في العراق،‮ و‬التي‮ ‬عرفها العرب باسم المدائن. وكان‮ ‬يشكّل جزءاً من قصر كبير‮ ‬يُسمّى في‮ ‬المصادر العربية "القصر الأبيض"، ويُنسَب بناؤه إلى كسرى أنوشروان‮ الذي ‬حكم بين 531 ‮و975 ‬بعد الميلاد‮، وتمتّع هو أيضاً بمكانة كبيرة في التراث كنموذج للملك الحكيم‮. ‬ 

لا يوجد من هذا القصر اليوم سوى بقايا الإيوان نفسه، والذي‮ ‬تتوسّط فتحتُه المقوّسة‮ ‬الواجهة الأصلية التي‮ ‬اختفى جناحها الشمالي في‮ منتصف نيسان/ إبريل ‮8881 ‬إثر فيضان دجلة‮. ‬وبقيت أجزاء من النصف الجنوبي‮ ‬تسمح لنا بتخيُّل ما كانت عليه الواجهة الأصلية من الزخرف والتشكيل‮. ‬فهي‮ ‬حائط من الآجر مصمت مرتفع على أربع طبقات،‮ ‬تزيّن كل طبقة النوافذ المقوّسة المصمتة أيضاً‮ ‬والأعمدة المنقوشة البارزة التي‮ ‬تؤطر النوافذ‮. ‬أما الإيوان فهو عبارة عن بهو مستطيل هائل الأبعاد بعرض قرابة 26 ‬متراً‮ ‬وعمق ‮34 ‬متراً،‮ أمّا سقفه المعقود‮ فيرتفع لأكثر من ‮53 ‬متراً‮.

يمكننا، من المعلومات المتفرّقة في‮ ‬المصادر العربية والفارسية، أنْ نرسم صورةً تقريبية لما كانت عليه عمارة "القصر الأبيض" من العظمة والسعة والأبهة؛ ‬فقد كان خلف الإيوان الكبير بهوٌ آخر مربّع الشكل‮. ‬وكانت تحيط بهذين البهوين المركزيين ستة أبهاء أصغر مساحة،‮ ‬ثلاثة من كل جهة تمتد على كامل طول الواجهة الجانبية،‮ ‬على حين امتدت أمام الإيوان باحة واسعة كانت تعقد فيها الاحتفالات الرسمية،‮ ‬على مرأى من كسرى الذي‮ ‬يجلس على عرشه المرصّع بالجواهر تحت تاجه المعلق فوق رأسه من سقف الإيوان‮. ‬وقد كانت جدران الإيوان مغطاة بالزخارف والتصاوير المختلفة التي‮ ‬تمثل آلهة وجبابرة وحيوانات ومشاهد حروب وصورة‮ ‬كسرى أنوشروان وغيره من الملوك الساسانيين،‮ ‬كما‮ ‬يخبرنا القزويني‮ ‬وياقوت الحموي،‮ ‬بالإضافة لكتابات شعرية باللغات الفارسية المختلفة من بهلوية ودرية وخوزية.‮ ‬وفي‮ ‬سقف الإيوان تصاوير تمثل السماء والنجوم والأفلاك منزلة بالذهب والدر على خلفية لازوردية.‮

ساهم الإيوان في بلورة مفهوم الأبهة في العمارة الإسلامية

لعب إيوان كسرى دوراً‮ ‬كبيراً‮ ‬في‮ ‬صياغة مفهوم الأبهة والضخامة في العمارة الإسلامية‮؛ فقد أشاد المؤرّخون المسلمون بعظمته وإتقان بنيانه‮؛ حيث وصفه ابن جبير الذي‮ ‬زاره عام ‮085 هجرية ‬بقوله: ‮"‬وهذا الإيوان بناء عالٍ في‮ ‬الهواء،‮ ‬شديد البياض،‮ ‬لم‮ ‬يبق من قصوره إلا البعض،‮ ‬فعايناها على مقدار الميل سامية مشرقة مشرفة"، وقال عنه أبو منصور الثعالبي‮ في‮ ‬كتابه "ثمار القلوب في‮ ‬المضاف والمنسوب‮": "يُضرب به المثل للبنيان الرفيع العجيب الصنعة،‮ ‬المتناهي‮ ‬الحصانة والوثاقة،‮ ‬لأنه من عجائب أبنية الدنيا،‮ ‬ومن أحسن آثار الملوك".

وويورد الثعالبي قصّة لا مجال للتحقُّق منها،‮ ‬ولو أنَّ ذلك لا يؤثّر على أهميتها كمؤشّر على مكانة الإيوان كرمز للعظمة والهيبة التي‮ ‬فرضها على كل من رآه أو سمع عنه حتى من دون أن‮ ‬يراه،‮ ‬وعلى التحدّي‮ ‬الذي‮ ‬مثّله‮ ‬بعظمته وضخامته لكلّ من أراد أن‮ ‬يضاهيه في‮ ‬عمارته‮. ‬هذه القصة تُنسَب لأبي‮ ‬جعفر المنصور باني‮ ‬مدينة السلام ‬بغداد، الذي‮ ‬أحبّ أن‮ ‬ينقض الإيوان ويبني‮ ‬بنقضه الأبنية‮، ‬فاستشار وزيره خالداً‮ ‬البرمكي‮ (وكان فارسياً) في‮ ‬ذلك فنهاه عن نقضه معلّلاً‮ ‬رأيه بقوله‮: "يا أمير المؤمنين إنه آية الإسلام،‮ ‬وإذا رآه الناس علموا أنّ من هذا بناؤه لا يزيل أمره إلّا نبي،‮ ‬وهو مع هذا مصلّى علي‮ ‬ابن أبي‮ ‬طالب رضوان الله عليه‮ (‬منسوب لعلي‮ ‬بن أبي‮ ‬طالب خطبة في‮ ‬الإيوان‮)‬،‮ ‬والمؤنة في‮ ‬هدمه ونقضه أكثر من الارتفاق به‮"، ‬فقال المنصور‮: "‬يا خالد، أبيتَ إلا ميلاً‮ ‬إلى العجم‮"، ‬ثم أمر بهدمه،‮ ‬فهدمت منه ثلمة،‮ ‬فبلغت النفقة عليها مالاً‮ ‬كثيراً،‮ ‬فأمر بالإضراب عن هدمه،‮ ‬وقال‮: "‬يا خالد قد صرنا إلى رأيك‮"، فقال‮: "‬أنا الآن أشير بهدمه‮"، ‬قال‮: "‬وكيف؟‮". ‬قال‮: "‬لئلا‮ ‬يتحدّث الناس بأنك عجزت عن هدم ما بناه‮ ‬غيرك‮"، ‬فلم‮ ‬يقبل قوله وتركه على حاله‮.‬

كان موضوع تقليد احتفالي‮ ‬في‮ ‬الشعر العربي‮ ‬الوسيط

هذه الخاطرة لن تختفي‮ ‬من الأدب‮ ‬الإسلامي،‮ ‬فهي‮ ‬تظهر مرّات عديدة في‮ ‬مواقف منسوبة إلى عدد من الحكّام اللاحقين أو لشعرائهم الذين استحضروا ذكرى إيوان كسرى كمَثل أعلى‮ ‬يرغبون لأبنيتهم أن تجاريه أو تتجاوزه‮؛ ‬فهذا المبنى المهيب ما انفك‮ ‬يهيّج قرائح الشعراء بأبهته وتسامقه ووثاقة بنيانه،‮ ‬ويذكّرهم مباشرةً بمجد الملوك الذين بنوه وعظمة ملكهم،‮ ‬كما قال الشريف المرتضى‮:‬

قد رأينا الإيوان إيوان كسرى   ‬فرأينا كالطود طولاً‮ ‬وعرضا
وترى العين منه أبهة الملك‮   وعيشاً‮ ‬لأهله كان خفضا
حيث كانت ضلوع من ولجَ  الإ‮يوان تنفض بالمخافة نفضا

وقد استعمل شعراء آخرون الوقوف على أطلال الإيوان للعظة والتمثّل بحال الدنيا المتقلّبة،‮ ‬فإذا كان مبنى عظيم كهذا قد دثر وزال مجد بانيه، فما بال أصحاب مبانٍ‮ ‬أُخرى لا يتّعظون بما‮ ‬يرونه من انقلاب أحوال الإيوان وأهله؟ فالبحتري‮ فتح فتحاً‮ ‬جديداً‮ ‬في‮ ‬الشعر‮ ‬بسينيته الشهيرة التي‮ ‬يصف فيها وقوفه على إيوان كسرى واستنطاقه إياه عن زوال الملك وتقلُّب حال الدنيا بدلاً‮ ‬من البكاء على الحبيب على عادة الوقوف على الأطلال عند شعراء الجاهلية‮:‬

وَكَأَنَّ الإيوانَ مِن عَجَبِ الصَنـعَةِ  جَوبٌ في جَنبِ أَرعَنَ جِلسِ
يُتَظَنّى مِنَ الكَآبَةِ إِذ يَبـدو لِعَينَي مُصَبِّحٍ أَو مُمَسّي
مُزعَجًا بِالفِراقِ عَن أُنسِ إِلفٍ   عَزَّ أَو مُرهَقًا بِتَطليقِ عِرسِ
عَكَسَت حَظُّهُ اللَيالي وَباتَ  المُشتَري فيهِ وَهوَ كَوكَبُ نَحسِ
فَهوَ يُبدي تَجَلُّدًا وَعَلَيهِ   كَلكَلٌ مِن كَلاكِلِ الدَهرِ مُرسي
لَم يَعِبهُ أَن بُزَّ مِن بُسُطِ الديـباجِ وَاستَلَّ مِن سُتورِ المَقسِ
مُشمَخِّرٌ تَعلو لَهُ شُرُفاتٌ  رُفِعَت في رُؤوسِ رَضوى وَقُدسِ
لابِساتٌ مِنَ البَياضِ  فَما تُبـصِرُ مِنها إِلّا غَلائِلَ بُرسِ
لَيسَ يُدرى أَصُنعُ إِنسٍ لِجِنٍّ   سَكَنوهُ أَم صُنعُ جِنٍّ لِإِنسِ

أُدرج إيوان كسرى في العديد من الأمثلة الشعرية ضمن مجموعة من الأبنية المشهورة والعظيمة التي غذّت مخيّلة الشعراء،‮ ‬ووفّرت لهم معيناً‮ ‬تصويرياً‮ ‬غنياً‮ ‬يسمح لهم بإدخال بعض التنويع التاريخي‮ ‬في مقارناتهم المتباهية‮. ‬هذه المجموعة ضمّت، بالإضافة إلى الإيوان، قصوراً تاريخية وأُخرى أسطورية كإرم ذات العماد، وجنائن تدمر، والخورنق والسدير قصرَي‮ ‬النعمان بن المنذر، في ما‮ ‬يمكن تسميته بالتقليد المعماري‮ ‬الاحتفالي‮ ‬في‮ ‬الشعر العربي‮ ‬الوسيط.

ولعلّ في‮ ‬ظهور الإيوان ضمن‮ "‬التقليد المعماري‮ ‬الاحتفالي‮" ‬أبلغ‮ ‬دليل على أن مفهوم الأبهة الذي‮ ‬أدته كلمة إيوان في‮ ‬اللغة وفي‮ ‬الشعر نبع من إيوان كسرى نفسه‮. من هذه الصور الشعرية، اشتُقَ المدلول المجرّد للكلمة، والذي واكب تطوّرُ معناها ومدلولاتها تطوّرَ استعمال الإيوان في‮ ‬عمارة الدولتين المملوكية والإيلخانية عندما شهد العالم الإسلامي‮ ‬ازدهاراً‮ ‬عمرانياً‮ ‬ومعمارياً،‮ ‬خلّف لنا عمارات عظيمة حفظت مدلولات كلمة إيوان كرمز ووعاء للأبهة وفصلتها عن الارتباط المباشر بإيوان كسرى الذي أصبح منذ ذلك الوقت أثراً مهماً وحسب‮.‬


* مؤرّخ معماري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون