لوقيانوس السميساطي.. السوري الساخر الذي أثّر في نهضة الأوروبيين

لوقيانوس السميساطي.. السوري الساخر الذي أثّر في نهضة الأوروبيين

11 مارس 2023
بقايا من جسر جندرة الروماني بالقرب من سميساط (ويكيبيديا)
+ الخط -

تمثّل شخصية الأديب والفيلسوف السوري لوقيانوس السميساطي (125 - 180م) النموذج الأبرز على ما يمكن تسميته "الهجين الثقافي" خلال العصر الإمبراطوري الروماني، حين هيمنت الثقافة الهلنستية الشرقية على حوض البحر الأبيض المتوسط برمته، فقد حفلت مؤلفاته بالمقارنات المفاهيمية بين ثقافته السورية المشرقية، والثقافتين الإغريقية واللاتينية، كما عبّر عن انتقاداته للكثير من الكتاب والفلاسفة والمؤرّخين اليونان بلغة ساخرة مليئة بالهجاء. ورغم ذلك؛ أثرت كتاباتُه في عدد كبير من الأوروبيين منذ مطلع عصر النهضة وحتى اليوم، ويعدُّ رائد أدب الخيال العِلمي.
 
كلّ ما نعرفه عن سيرة لوقيانوس مستمدٌّ من مؤلّفاته، ولذلك ظهرت الكثير من الدراسات التي شكّكت ببعض المعلومات، على اعتبار أنها مُجرّد نصوص تهكّمية. ويذهب البعض إلى أن استخدام لوقيانوس لأسماء عديدة منحوتة من اسمه مثل: لوكيان أو السوري، ما هو إلا أسلوب تمويهي للتهكّم على الأفكار والعقائد الإغريقية، حين يُقارن بينها وبين أفكار وعقائد السوريين. والغريب أن هذه السخرية نالت من كتّاب ونقاد ألمان من أبناء القرنين التاسع عشر ومطلع العشرين، تبخيساً وصل إلى اتهامه بأنه مجرد "سوري شرقي بلا روح"، في تساوق واضح مع ظهور فكرة التفوّق العرقي الأوروبي.


سوري من سميساط

وُلد لوقيانوس في مدينة سميساط الواقعة جنوبي تركيا الحالية على ضفة الفرات حوالي العام 125 للميلاد، حين كانت المدينة تتبع لولاية سورية الرومانية. وكان معظم سكان سميساط من السوريين الذين يرجّح أن لغتهم الأصلية هي السريانية الرهاوية. ووفقاً لخطبته المعنونة بـ"الحلم"، فقد كان أعمامه يمتلكون مشغلاً لصنع التماثيل، ولم يكن والداه قادرين على تحمّل تكاليف تعليمه العالي، ولذلك، بعد أن أكمل تعليمه الابتدائي، أخذه أحدُ أعمامه كمتدرّب وبدأ بتعليمه فن النحت. ولكنه فشل في التعلّم، وحطّم التمثال الذي كان يعمل عليه، فضربه العمّ، مما دفعه للهروب. وقد رأى لوقيانوس في منامه حُلماً تقاتلت فيه التماثيل مع الثقافة مجسدة بكيان مادي، فقرّر الاستماع إلى كيان الثقافة المجسد، وبالتالي سعى للحصول على التعليم.

تابع لوقيانوس دروسه في إيونيا (منطقة الأناضول الحالية)، ثم أصبح محاضراً جوّالاً، زار عدداً من المدارس والأكاديميات في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية حتى حصّل شهرة وثروة كبيرين، قبل أن يستقرَّ في أثينا عاصمة بلاد اليونان لمدة عقد من الزمان، كتب خلالها معظم أعماله، وفي الخمسينيات من عمره تم تعيينه في السلك الحكومي الروماني في مصر، ليختفي بعد ذلك من سجلّات المؤرّخين، حيث يرجح أنه توفي بعد العام 180 ميلادي. 


مع الفلسفة وضدّها

بسبب أسلوبه التهكّمي الساخر، كان صعباً على الباحثين المعاصرين تحديد موقف لوقيانوس من الفلسفة، فقد وصف الفلسفة بأنها "نظام بناء أخلاقي"، لكنه انتقد الفلاسفة المزيفين، حيث يصوّرهم جشعين سيِّئي المزاج، ومنحرفين جنسياً. ومن غير المعروف إن كان لوقيانوس عضواً في أي من المدارس الفلسفية المنتشرة في عصره. وقد سخر في كتابه "فلسفات للبيع" من الرواقية والأفلاطونية لأنه اعتبرهما مشجعتين على تبنّي الخرافات. ولكنه كان مُعجباً جداً بالفيلسوف أبيقور (341 - 270 ق.م) الذي وصفه في كتابه "النبي الكذاب" بأنه مقدس حقاً ومتنبِّئ. 

الصورة
لوقيانوس - القسم الثقافي
بورتريه لـ لوقيانوس السميساطي (Getty)

يُنكر لوقيانوس فكر الوحي، على الرغم من أنه لم يكن الوحيد من أبناء عصره ممن أعربوا عن تشكيكهم في ذلك، كما رفض الإيمان بالخوارق، معتبراً أنها مجرد خرافات، وبالتالي لم يكن يؤمن بالشيطان أو الأشباح لأنه لم ير من قبل مثل هذه الأشياء. ومع ذلك تراه يؤمن بقدرات الإله الشافي إسكولابيوس. أما أكثر الكتّاب تأثيراً بلوقيانوس فهو مواطنه السوري من جدارا مينيبوس، الفيلسوف الكلبي الساخر الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. 


رائد الخيال العِلمي

نجا للوقيانوس ثمانون عملاً؛ بين محاورة هزلية، وخطبة، ومقالة، ونثر خيالي، وهي مؤلّفات تخاطب طبقة مثقّفة ذات تعليم عالٍ. ولعل كتابه السردي الأشهر هو "قصص حقيقية"، حيث يسخر فيه من بعض الحكايات التي رواها هوميروس في الأوديسة، وكذلك حكايات المؤرّخ ثيوسيديدس. وبناء على تصنيفات الأدب المعاصر، يُعدُّ هذا الأثر الإرهاص الأول لأدب الخيال العِلمي، بما في ذلك الرحلات إلى القمر وكوكب الزهرة، والحياة خارج كوكب الأرض، والحرب بين الكواكب.

يخبر لوقيانوس القرّاء في بداية روايته أن القصة التي سيرويها ليست "حقيقية" على الإطلاق، وأن كلّ ما فيها هو كذب مُطلق. ويبدأ السرد مع لوقيانوس ورفاقه الذين يسافرون بحراً عبر "أعمدة هرقل" (مضيق جبل طارق حالياً)، وبسبب العاصفة يصلون إلى جزيرة فيها نهر من النبيذ مليء بالأسماك والدببة، وهي إشارة إلى أن الإلهين الإغريقيين هرقل وديونيسوس قد وصلا إلى هذه النقطة، كما يشاهدون أشجاراً تشبه النساء. وبعد وقت قصير من مغادرتهم الجزيرة، تبتلعهم زوبعة وتأخذهم إلى القمر، حيث يجدون أنفسهم متورّطين في حرب واسعة النطاق بين ملك القمر وملك الشمس بسبب كوكب الزهرة.

يصف لوقيانوس الجيشين المتقاتلَين بأنهما يضمّان أشكال حياة هجينة غريبة. وأخيراً ينتصر جيش الشمس بالتعتيم على القمر وحَجْب النور عنه، ثم يتوصّل الطرفان إلى اتفاق سلام، ويصف لوقيانوس الحياة على القمر، وكيف تختلف عن الحياة على الأرض. وبعد العودة إلى الأرض يبتلعهم حوت يبلغ طوله 200 ميل، هم ومجموعة متنوعة من الأسماك، فيقتتل هو ورفاقه مع جيش الأسماك وينتصرون عليه، ثم يقتلون الحوت عن طريق إشعال النار في جوفه وينجحون في الهروب من خلال فتحة فمه. 

بعد ذلك، يواجهون بحراً من الحليب، وجزيرة من الجبن، ويغادرون إلى جزيرة المباركين، وهناك يلتقي لوقيانوس بأبطال حرب طروادة، وغيرهم من الرجال والحيوانات الأسطورية، بالإضافة إلى هوميروس وفيثاغورس. ويجد أن ثمة محاكمة كانت منصوبة لهم، ويخبرنا أن أسوأ هؤلاء هم الذين كتبوا كتباً فيها أكاذيب وأوهام، مثل المؤرّخ الإغريقي الشهير هيرودوت (484 - 425 ق.م)، وكذلك المؤرخ والطبيب كتيسياس من أبناء القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. 

الصورة
منممنمنمة عن لقاء الإسكندر وديوجين في حاشية على "محاورات الموتى" (Getty) - القسم الثقافي
منمنمة عن لقاء الإسكندر وديوجين في حاشية على "محاورات الموتى" (Getty)

وبعد مغادرة جزيرة المباركين، يقوم لوقيانوس ورفاقه بتسليم رسالة إلى كاليبسو، الحورية الشهيرة التي احتجزت أوديسيوس، بطل ملحمة الأوديسة، سبع سنوات، أعطاها إياهم أوديسيوس نفسه وتنص على أنه يتمنى لو بقي معها حتى يعيش إلى الأبد. ثم يكتشفون فجوة في المحيط، لكنهم في النهاية يبحرون حولها، ويكتشفون قارة بعيدة ويقررون استكشافها. وعند هذه النقطة ينتهي الكتاب فجأة مع إشارة من لوقيانوس بأن مغامراتهم المستقبلية سيتم وصفها في السلسلة القادمة، وهو وعد لم يتحقّق أبداً. 


المحاورات الساخرة

يشتهر لوقيانوس بمحاوراته الساخرة التي صاغها على غرار المحاورات الأفلاطونية، ولكن؛ خلافاً لمضمون محاورات أفلاطون الفلسفية، تغلب النزعة التهكّمية على محاوراته. ومن أشهرها: "محاورات الموتى" التي تتمحور حول الفيلسوفَين الساخطَين ديوجين الكلبي (413 - 323 ق.م)، والسوري مينيبوس الجداري (300 - 260 ق.م) اللذين عاشا حياتيهما بتقشف كبير، ويعيشان الآن بشكل مريح في ظروف العالم السفلي المروّعة. وهي إشارة ساخرة إلى أن حياتيهما الحقيقية كانت أسوأ من الجحيم ذاته، بدليل أن الذين عاشوا حياتهم بترف ها هم يتألّمون وهم يواجهون الظروف نفسها التي واجهها الفيلسوفان الكلبيَّان. 

وفي محاورته "عاشق الأكاذيب" يسخر لوقيانوس من الإيمان بالمعجزات وخوارق الطبيعة، من خلال قصة يذهب فيها الراوي الرئيس، وهو متشكّك اسمه تيخياديس لزيارة صديقٍ مُسنّ له اسمه يوكراتس، وفي منزل يوكراتس يلتقي تيخياديس بمجموعة كبيرة من الضيوف الذين اجتمعوا مؤخراً بسبب مرض يوكراتس. ويقدّم الضيوف ليوكراتس مجموعة متنوعة من العلاجات الشعبية لمساعدته على التعافي، وعندما يعترض تيخياديس على أن مثل هذه العلاجات لا تجدي، يضحك الآخرون عليه ويحاولون إقناعه بالإيمان بالخوارق من خلال إخباره بقصص تزداد سخافة مع تقدّم المحاورة.

وفي محاورته "فلسفات للبيع" أنشأ لوقيانوس سوق عبيد وهميا يعرض فيه الإله زيوس فلاسفة مشهورين للبيع، بمن في ذلك فيثاغورس، وديوجين، وهيراقليطس، وسقراط؛ ويحاول كل منهم إقناع العملاء بشراء فلسفته. أما في محاورة "المأدبة"، فيشير إلى نفاق ممثّلي جميع المدارس الفلسفية الكبرى. وفي محاورته "صياد السمك" يدافع عن محاوراته الأُخرى، من خلال مقارنة فلاسفة الأزمنة الغابرة بأتباعهم المعاصرين غير المستحقين لتلك التبعية. وغالباً ما ينتقد لوقيانوس أولئك الأشخاص الذين يتظاهرون بأنهم فلاسفة؛ بينما هم في الحقيقة محتالون. وفي محاورة "الهاربون" يصور الدجال الساخر على أنه نقيض للفلسفة الحقيقية. 

وهذه المحاورة هي محاكاة ساخرة لإحدى محاورات أفلاطون، فبدلاً من مناقشة طبيعة الحب، تجد أن الفلاسفة يسكرون ويروون حكايات بذيئة، ويتجادلون بلا هوادة حول أي مدرسة هي الأفضل. وفي النهاية ينشب بينهم شجار واسع النطاق. وكتب لوقيانوس أيضاً العديد من المحاورات التي يسخر فيها من القصص اليونانية التقليدية عن الآلهة، والمشاهد الأسطورية، إذ تصوّر تلك المحاورات الآلهة اليونانية ضعيفة بشكل مضحك، وعرضة لجميع نقائض المشاعر البشرية، ويظهر زيوس على وجه الخصوص على أنه "حاكم عاجز" وعجوز مُدمن على الزنا.


الرسائل

تصف رسالة لوقيانوس حول "النبي الكاذب" صعود الإسكندر أبونوتيخوس، الدجال الذي ادّعى أنه نبي الإله الثعبان جليكون. وعلى الرغم من أن القصة ساخرة النبرة، إلا أنها بدت وكأنها تقرير دقيق إلى حدٍّ كبير عن عبادة الثعبان جليكون التي تم تأكيدها بالعديد من الأدلة الأثرية، بما في ذلك العملات المعدنية والتماثيل والنقوش. ويصف لوقيانوس لقاءه مع الإسكندر الكاذب الذي تظاهر فيه بأنه فيلسوف ودود، ولكن عندما دعاه الإسكندر لتقبيل يده، عضها لوقيانوس بدلاً من ذلك. ويقول: إنه بصرف النظر عن نفسه، كان الأبيقوريون هم الوحيدون الذين تجرّأوا على تحدي سمعة الإسكندر كنبي حقيقي، وكذلك المسيحيين.

الصورة
صفحة من الترجمة اللاتينية لأعمال لوقيانوس السميساطي (1619/ ويكيبيديا) - القسم الثقافي
صفحة من الترجمة اللاتينية لأعمال لوقيانوس السميساطي (1619/ ويكيبيديا)

وتمتاز رسالة لوقيانوس "الإلهة السورية" بأنها وصف مفصل لعبادة الربة السورية أتارغاتيس في هيرابوليس (منبج حالياً). وفي هذه الرسالة يسخر لوقيانوس من الفروق الثقافية بين "الإغريق" و"السوريين" من خلال الطريقة التي تبنّى بها السوريون الحضارة الهلنستية. ويبدو الراوي المجهول للرسالة وكأنه سفسطائي يوناني، ولكن مع تقدم الرسالة، يكشف عن نفسه عن أنه سوري أصيل. أما مقالته "ماكروبي" فهي عن الفلاسفة المشهورين الذين عاشوا لسنوات طويلة. ويصف المدة التي عاشها كلٌّ منهم، ويقدّم سرداً لكل حالة وفاة.

وتُعدّ رسالته عن الرقص مصدراً رئيساً للمعلومات حول الرقص اليوناني الروماني في ذلك العصر، حيث يصف الرقص بأنه تقليد لأسطورة بروتيوس، تلك الراقصة المصرية الماهرة. وفي رسالته "كيف تكتب التاريخ"، ينتقد لوقيانوس المنهجية التاريخية التي استخدمها كتّاب مثل هيرودوت وكتيسياس الذين كتبوا أوصافاً حية لأحداث لم يروها في الواقع. ويجادل لوقيانوس بأنه ليس على المؤرّخ أن يزيّن تاريخه بقصص خيالية، بل يجب عليه أن يضع التزامه بالدقة فوق رغبته في الترفيه عن جمهوره. ويضيف أنه ينبغي على المؤرخ أن يظلّ محايداً تمام الحياد، وأن يخبر عن الأحداث كما حدثت بالفعل، حتى لو كان احتمال رفضها قائماً. ويعد لوقيانوس المؤرخ الإغريقي الشهير ثوقيديدس (460 - 395 ق.م.)، صاحب كتاب "تاريخ الحرب البيلوبونيسية" كمثال ممتاز للمؤرخ الذي يصوغ تلك الفضائل.

وفي رسالته الساخرة "موت برغرينوس" يصف لوقيانوس طريقة انتحار الفيلسوف الساخر المثير للجدل برغرينوس بروتيوس (95 - 165م) الذي ضحّى بنفسه علناً في محرقة دورة الألعاب الأولمبية عام 165 ميلادي، لكي يثبت أفكاره حيث قال من عاش مثل هرقل عليه أن يموت مثله، علماً أن الأسطورة اليونانية تقول إن البطل الاغريقي هرقل وضع حداً لحياته في محرقة. وتحتل هذه الرسالة أهمية تاريخية لأنها تنطوي على أحد أقدم التقييمات الوثنية للمسيحية، حيث نقرأ خطاباً لإحدى شخصيات الرسالة يسخر فيه من المسيحيين بسبب سذاجتهم وجهلهم، لكنه، في الوقت نفسه، يمتدح أخلاقهم، ورغم ذلك المديح، تتنبّأ "موسوعة سودا" البيزنطية، من القرن العاشر الميلادي، بأن روحه تحترق في الجحيم بسبب تلك الرسالة. ويسخر لوقيانوس في رسالته المعنونة بـ"ضد جامع الكتب الجاهل"، من دأب الشرقيين على جمع مكتبات ضخمة من النصوص اليونانية من أجل الظهور بمظهر "مثقف"، ولكن دون قراءة أي منها فعلياً.


تأثيره في عصر النهضة الأوروبية

دعمت أفكار لوقيانوس وطريقته الساخرة، ظهور الموضوعات الأساسية للنزعة الإنسانية في مطلع عصر النهضة الأوروبي، وحظيت "محاورات الموتى" بشعبية خاصة، واستُخدمت على نطاق واسع في التعليم الأخلاقي. ونتيجة لهذه الشعبية، كان لكتابات لوقيانوس تأثيرٌ عميق على عدد مهم من كتاب عصر النهضة وأوائل العصر الحديث. وقد تبنى العديد من الكتّاب الأوروبيين خلال عصر النهضة أسلوب لوقيانوس المَرح، وتقنيته في ربط الأحداث بحوار سلس من السهل الممتنع، وكذلك لعبه على أسماء الأعلام، وخدعته المتمثّلة في بناء أسماء ذات معان تنطوي على روح الدعابة. وخلال حركة الإصلاح البروتستانتي، قدّم لوقيانوس طريقة أدبية سهلة للكتّاب الذين يسخرون من رجال الدين الكاثوليك. ولعل أبرز المتأثرين به هو الفيلسوف الهولندي يراسيموس (1466 - 1536م) في كتابه "مديح الحماقة"، وكذلك الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه (1483 - 1553م)، ولا سيما في خماسيته الروائية "حياة غارغانتوا وبانتاغرويل"، والتي نُشرت للمرة الأولى عام 1532م.

الصورة
"افتراء أبيليس" (1495) لـ ساندرو بوتيتشللي- القسم الثقافي
"افتراء أبيليس" (1495) لـ ساندرو بوتيتشللي، بالاستناد إلى أوصاف أوردها لوقيانوس (Getty)

ويرى النقاد أن كتابه "قصص حقيقية"، هو الذي ألهم السياسي والمفكر البريطاني السير توماس مور (1478 - 1535م) لكتابه عمله الشهير "يوتوبيا" الذي نُشر عام 1516. وكذلك كتاب "رحلات غوليفر" للأنغلو- إيرلندي جوناثان سويفت (1667 - 1745). كما تستند لوحة "افتراء" لفنان عصر النهضة الإيطالي ساندرو بوتيتشيللي (1445 - 1510م) إلى أوصاف اللوحة المفقودة للفنان الهلنستني أبيليس كما كتبها لوقيانوس، وكذلك اللوحة الشهيرة "بالاس والقنطور". ويُعد نص لوقيانوس "تيمون الميسانثروبي" مصدر الإلهام الرئيس لمأساة ويليام شكسبير (1564 - 1616م) "تيمون الأثيني"، وينسخ شكسبير في مشهد هاملت مع حفاري القبور عدة مقاطع من كتاب لوقيانس "محاورات الموتى".

وأثرت كتابات لوقيانوس في كُتّاب عصر التنوير مثل: فولتير (1694 - 1778م)، وديدرو (1713 - 1784م)، وكذلك كتَّاب المرحلة الكلاسيكية مثل: جول فيرن (1828 - 1905م)، صاحب رواية "حول العالم في ثمانين يوماً"، وإدمون روستان (1868 - 1918م) صاحب مسرحية "سيرانو دي برجراك"، وغيرهم. وقد عده الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711 - 1776م)، كاتباً أخلاقياً رفيعاً، واستشهد به عند مناقشة "الأخلاق أو الدين".


موقف عنصري

وعلى الرغم من إعجاب مؤلفي وفناني عصر النهضة الأوروبية بلوقيانوس، نجد تقييمات عنصرية له من جانب كتّاب وأدباء أوروبيين من أبناء القرن التاسع عشر، إذ وصفه الفنان والكاتب الألماني إدوارد نوردن (1868 - 1941م) بأنه ليس أكثر من "شرقي بلا عمق أو شخصية، وبلا روح، ويهين اللغة الأكثر عاطفية"، ويقصد اللغة اليونانية.

كما وصفه الناقد والأستاذ الجامعي الألماني رودولف هيلم (1872 - 1966م) بأنه "سوري طائش، لا يمتلك روحاً تراجيدية". ومن المرجّح أن هذه الآراء السلبية نتجت عن شيوع الأفكار القومية والنزعة المركزية الأوروبية لدى مثقفي ألمانيا القرن التاسع عشر.


كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون