أبولودور الدمشقي.. المعمار الذي أدخل روح الشرق إلى مُشيّدات روما

أبولودور الدمشقي.. المعمار الذي أدخل روح الشرق إلى مُشيّدات روما

21 يناير 2023
جانب ممّا تبقّى من سوق تراجان الذي صمّمه أبولودور في روما (Getty)
+ الخط -

أبولودور الدمشقي هو المهندس المعماري الأشهر والأكثر شعبية في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، وإليه تنسب الأعمال المعمارية الكبرى التي ميزت عهد الإمبراطور الثالث عشر لروما تراجان (53  - 117 للميلاد)، ثاني الأباطرة الأنطونيين. فقد أدخل هذا المهندس الدمشقي النبطي الروح الشرقية للعمارة الرومانية، ونقل فكرة المسلّات والأنصاب المصوّرة لمنجزات ملوك الشرق، لتصبح تقليداً إمبراطورياً رومانياً، واخترع فكرة القبّة، وكان مصمّم أكبر الجسور في تاريخ الإمبراطورية.


نبطي دمشقي

وُلد أبولودور في دمشق عام 50 ميلادية على الأرجح، حين كانت هذه المدينة واحدةً من الحواضر النبطية، وقد صرّح هو عن أصله النبطي في إحدى المناسبات، كما تقول الباحثة الأميركية باولا لاندرات صاحبة المؤلَّف المرجعي "العثور على روما القديمة"، والتي خصّصت فصلاً مهمّاً عنه في كتابها. 

نشأ أبولودور وترعرع في مدينته دمشق خلال المرحلة الذهبية للتجارة الدولية النبطية، حين كان للأنباط ميناءٌ في مدينة صيدا، وآخر في إيطاليا ذاتها في مدينة بوتيولي قرب نابولي. وحين كان في الخامسة من عمره كتب بولس الرسول رسالته أهل كورنثوس التي قال فيها: "في دمشق والي الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين، يريد أن يمسكني فتدلّيت من طاقة في زنبيل من السور ونجوتُ من يديه".

وحين أصبح شاباً كانت العلاقة بين الرومان والأنباط قد أصبحت عضوية، بحيث أصبحت روما صاحبة القول الفصل في كلّ ما يخصّ شؤون الحكم. ويبدو أنه كان مهندساً عسكرياً بارعاً في هذه المرحلة، حيث تعرّف على ابن حاكم سورية الروماني، والإمبراطور المستقبلي تراجانوس الذي استدعاه إلى روما عندما أصبح قنصلاً عام 91 للميلاد، ثم رافقه لاحقاً إلى داسيا (رومانيا الحالية)، عام 105 م، لخوض إحدى المعارك الفاصلة في تاريخه.

صمّم أبولودور وأشرف على بناء منتدى تراجان، وسوق تراجان، والبانثيون، وعمود تراجان، وميدان سباق الخيل، وكلّ ذلك داخل مدينة روما، أما خارج العاصمة، فبنى جسوراً على نهر الدانوب في رومانيا الحالية وصربيا، وعلى نهر تاجة في إسبانيا، وصمّم قوس النصر في مدينتي بينيفينتو وأنكونا، وهو صاحب كتاب "آلات الحصار" الشهير الذي أهداه لإمبراطور لم يذكر اسمه، ولكن يُرجح أنه تراجان.


قصة موت مع هادريان

يُرجع بعض الدارسين المعاصرين براعة أبولودور الفنية إلى جذوره الثقافية النبطية، والتي تأثرت بالحضارة الهيلينية، وأُعيد إنتاجها بروح شرقية، عُرفت باسم الحضارة الهلنستية، وأيضاً تشبّعه بالتقاليد المعمارية السورية، حيث يُنسب له إدخال القبة إلى العمارة الرومانية، وربما الدليل على ذلك، بالإضافة إلى قصته الشهيرة مع الأمير هادريان (76 - 138)، قبل أن يصبح إمبراطوراً، أن مصطلح القبة دخل إلى اللغة اللاتينية "Cupa"، كما هو في اللغة النبطية.  

الصورة
تمثال رأسي لأبولودور الدمشقي (ويكيبيديا) - القسم الثقافي
تمثال رأسي لأبولودور الدمشقي (ويكيبيديا)

ويروي المؤرّخ الروماني كاسيوس ديو أن هادريان أوقع عقوبة الإعدام على أبولودور الدمشقي بسبب جُنحة بسيطة لا تستوجب القتل، ولكنه كان حاقداً عليه بسبب موقف قديم بينهما حين علّق على أحد التصميمات بأنها تشبه نبات القرع، في إشارة إلى القبّة، فما كان من أبولودورو إلّا أن أجابه: أنت لا تفهم في هذه الأمور.  

ويضيف كاسيوس ديو القول إن هادريان عندما أصبح إمبراطوراً، تذكّر إهانة أبولودور فأرسل له مخطّط معبد فينوس وروما، محاولاً أن يوصل له رسالة بأنه أنجز عملاً عظيماً من دون مساعدته، وسأل أبولودور إن كان المخطّط المقترح مُرضياً؟ فكان ردّ المهندس المعماري له: أولاً في ما يتعلّق بالمعبد، فكان يجب أن يُبنى على عُلوٍّ مرتفع. وفي ما يتعلّق بالأرض، فكان يجب أن يتم الحفر تحتها، بحيث تُشرف من موقعها الأعلى بشكل أكثر وضوحاً على الطريق المقدّس، وربما استوعبت أيضاً الآلات الموجودة في قبوها، بحيث يمكن تجميعها هناك من دون أن يلاحظها أحد بدل إحضارها إلى المسرح. ثانياً في ما يتعلق بالتماثيل، قال هي طويلة جداً بالنسبة لارتفاع حُجرة قدس الأقداس، وأضاف ساخراً: إذا رغبت الآلهة في النهوض والخروج، فلن تتمكّن من القيام بذلك. وهنا غضب هادريان بشدّة، وشعر بالحزن العميق لأنه وقع في خطأ لا يمكن تصحيحه، ولم يوقف غضبه ولا حزنه إلّا قتل أبولودور.


منتدى تراجان

المنتدى هو المركز التشريعي والإداري للمدينة في العمارة الرومانية، و"منتدى تراجان" هو آخر المنتديات الإمبراطورية التي بُنيت في روما بأمر من تراجان عام 107 م، بعد انتصاره في داسيا، وبتمويل من غنائم الحرب التي غنمها من تلك المعركة. وقد وضع أبولودور الدمشقي مخطّطاً فريداً من نوعه لهذا الصرح المعماري المركزي، وأشرَف بنفسه على تنفيذ المخطّط، فكان لا بدّ من عمليات تجريف واسعة بسبب طبيعة تضاريس المنطقة المكوّنة من تلال متّصلة، قام العمّال بإزالتها، والإبقاء على تلّين فقط هما كويرينال وكابيتولين، وتمّت إزالة أكثر من 300 ألف متر مكعّب من التربة والصخور. 

كان المخطّط الذي وضعه أبولودور يتكوّن من سلسلة مساحات مفتوحة وأُخرى مغلقة، بدءاً من ساحة واسعة محاطة برواق، يبلغ طولها 300 متراً، وعرضها 185 متراً، تُفضي إلى غُرف على الجانبين. وكان المدخل الرئيسي للساحة يقع في الطرف الجنوبي يدخل إليه من خلال قوس النصر المُشيَّد لإحياء ذكرى انتصارات داسيا، والمزيّن بأفاريز وتماثيل لسجناء تلك المعركة. وكلّ ذلك مُحاطٌ بجدران عالية مبنيّة من الحجارة الكلسية المكسوّة بالرخام، والتي كانت تحيط بالمنتدى من ثلاث جهات. 

بالقُرب من الساحة كانت ثمّة مكتبتان، إحداهما تضمُّ وثائق لاتينية والأُخرى وثائق يونانية، وهي أرشيفات الدولة بما في ذلك أعمال الأباطرة، ومراسيم القضاة البريتوريين. وقد أضاف هادريان مبنى مدرسة فلسفية مجاورة للساحة تتكوّن من ثلاث قاعات متوازية، تفصل بينها ملاحق، وكان المبنى يُعرف باسم الأثينيوم؛ استُخدم كمدرسة ومكاناً للتقاضي، ومركز اجتماع عرضي لمجلس الشيوخ.


عمود تراجان 

في شمالي ساحة المنتدى، بين المكتبتين كان عمود تراجان ينتصب بارتفاع 34 متراً، وهذا العمود من المُستحدثات التي أدخلها أبولودور إلى الأنصاب التذكارية الرومانية، وهو لا شك قد زاوَج فيه بين فكرة المسلّة المصرية، والمسلّة الآشورية التي تخلّد منجزات الملك برسومات تصوّر انتصاره على أعدائه في إحدى الحملات، والغنائم التي حازها، وصور الأسرى. 

كان عمود تراجان الذي اكتمل بناؤه عام 113 م، يتكوّن من شريط نحتي بارز متحلزن، يصوّر الحرب في داسيا، وغدا مصدر الإلهام للعديد من أعمدة النصر القديمة والحديثة. وكان يتكوّن من عشرين قطعة أسطوانية من رخام كرارا الشهير، وزن الواحدة منها 32 طناً، بقطر 3.7 متر، وكان طول الإفريز المُحلزن 190 متراً، يلتفُّ حول العمود 23 مرّة.

الصورة
مسلّة تراجان في روما، وعلى قمّتها تمثال لبطرس الرسول (Getty) - القسم الثقافي
مسلّة تراجان في روما، وعلى قمّتها تمثال لبطرس الرسول (Getty)

وتشير العملات القديمة إلى أن رأس العمود كان مزيّناً بالنسر، تماماً كما هو الأمر في العمارة النبطية، ولكنّ النسر اختفى في العصور الوسطى ليحلّ محلّه في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر 1587 تمثالاً برونزياً للقديس بطرس الرسول ما زال موجوداً حتى اليوم.


المعبد والبانثيون

أما "معبد تراجان" المخصّص للإمبراطور وزوجته بلوتينا بعد تأليهه من قبل مجلس الشيوخ الروماني، فقد بُني في المنتدى من جانب ابنه بالتبنّي وخليفته هادريان، بين عامي 125 و138 م، بإشراف وتنفيذ أبولودور الدمشقي. ولكن هذا المعبد اختفى بعد تدميره في العصور الوسطى، ولم يستطع علماء الآثار تحديد موقعه الدقيق حتى الآن، ولم يبق منه سوى نقش التشييد الموجود حالياً في مكتبة الفاتيكان. 

ويُنسب الـ"بانثيون" (مجمع الآلهة الرومانية)، لأبولودور أيضاً، وهذه المرّة نفّذه في عهد هادريان كما يُعتقد، وهو مجمع له أصلٌ قبل ذلك الزمن، ولكن هادريان أعاد بناءه، وهو مبنى أسطواني الشكل به رُواق من الأعمدة الكورنثية الغرانيتية الكبيرة، ويربط دهليزٌ مستطيل الشرفة بالقاعة المستديرة، التي تقع تحت قبّة خرسانية عملاقة مغطّاة، مع فتحة مركزية تشكّل عيناً على السماء، ما تزال صامدة بعد ألفي عام من بنائها. 

وهذا الـ"بانثيون" هو واحد من أجمل وأفضل المباني الرومانية القديمة التي حوفظ عليها، وتم تحويله منذ القرن السابع إلى كنيسة دعيت باسم "سانتا ماريا". وقد أصبحت قبّة هذا المبنى أنموذجاً قياسياً حين أُعيد إحياء الأنماط الكلاسيكية في عصر النهضة، وتم نسخها مرّات عدّة من قبل المعماريين اللاحقين، وربّما تأثّر بها مهندس "كنيسة آيا صوفيا" في القسطنطينية.  


سوق تراجان

من المشيّدات الرائعة المنسوبة لأبولودور الدمشقي "سوق تراجان"، وهو مبنى عام كان جزءاً لا يتجزّأ من "منتدى تراجان"، ويقع مقابل الجانب المحفور من تل كويرينال مقابل الكوليسيوم، وهو أنموذج حيّ للحياة في العاصمة الرومانية. وقد تم بناء المحلّات التجارية والشقق في صرح متعدّد الطبقات، ولا يزال بالإمكان زيارة العديد من الطوابق الناجية من التدمير. وقد خضع المبنى لسلسلة من التغييرات على مرّ العصور، وخصوصاً في العصور الوسطى حيث تحوّل إلى حصن عسكري، ودير مسيحي في بداية عصر النهضة، ثم ثكنة عسكرية بدءاً من عام 1885، ومع بداية القرن الحادي والعشرين تم هدم الزيادات لإعادة سوق تراجان إلى سابق عهده. 

يتكوّن السوق من قاعات كبيرة أعظمها قاعةٌ لها شرفة تُطلّ على "منتدى تراجان"، وعلى المحلّات التجارية، وهي مسقوفة بسقف خرساني يرتفع على حوافّ، ولكنه يسمح للهواء والضوء بالدخول إلى الفضاء المركزي. والسوق كلّها مبنيّة بالطوب والخرسانة. وثمة طريق كان يضم حانات رومانية، ومحلّات بقالة يقطع سوق تراجان. وفي الجزء السفلي من السوق قاعتان كبيرتان، ربما استخدمتا في الحفلات الموسيقية.


جسر الدانوب

أما الأثر العمراني الأعظم الذي خطّط وأشرف على بنائه أبولودور خارج العاصمة روما، فهو جسر تراجان على نهر الدانوب في جمهورية صربيا الحالية، بالقرب من الحدود مع رومانيا، وهو يسمّى أيضاً جسر أبولودور الدمشقي أيضاً. ومكمن عظمته أنه كان أطول جسر مقوّس طوال أكثر من ألف عام، رغم أنه استُخدم وكان صالحاً للعبور خلال 165 عاماً فقط. وكان الهدف من بنائه السماح للقوّات الرومانية بعبور النهر قبل حرب داسيا الثانية، وكطريق إمداد للجيوش الرومانية التي تُقاتل هناك.

كان طول الجسر يبلغ 1135 متراً، بعرض 15 متراً، ويبلغ ارتفاعه عن سطح الماء 19 متراً، وفي كلّ طرف كان ثمة معسكر روماني مبني حول مدخل الجسر، بحيث كان من المستحيل عبوره إلا بالسير وسط المعسكر. 

استخدم أبولودور الدمشقي، في بنائه أقواساً خشبية، يبلغ طول الواحد منها 38 متراً، مثبّتة على عشرين عموداً من الطوب، وقد تم بناؤه بسرعة كبيرة بين عامي 103 و105 م.

الصورة
تفصيل نحتي على مسلة تراجان يظهر فيها جسر أبولودور فوق نهر الدانوب (ويكيبيديا) - القسم الثقافي
تفصيل نحتي على مسلّة تراجان يظهر فيها جسر أبولودور فوق نهر الدانوب (ويكيبيديا)

وقد وصفه مؤرّخ روما كاسيوس ديو بعد نحو قرن من الزمان وصفاً مفصّلاً، وأبدى إعجابه الشديد به، وقال إنه يفوق جميع الأعمال الرائعة الأُخرى التي أمر تراجان ببنائها. في ما قال المؤرّخ البيزنطي بروكوبيوس إن تراجان كان مستاءً من عدم وجود حدود لمملكته، اللهم إلّا نهر الدانوب فقط، ولذلك قرر أن يعبر النهر لحرب "البرابرة".

ويضيف فقرة لافتة يتساءل فيها عن كيفية بناء هذا الجسر، ويعلّق بأنه سيترك أبولودور الدمشقي يتحدّث عن ذلك بنفسه من خلال اقتباس نقله من رسالة ما، ولكنّ الاقتباس ضاع، كما ضاع الأصل الذي يفترض أن يكون رسالة في بناء الجسر. ومن سخريات الأقدار أن الإمبراطور أورليان، الذي مُني بهزيمة في داسيا عام 271 م، أمر بهدْم الجسر لقطع الطريق على "البرابرة" كي لا يتتبّعوا جيشه المدحور، هذا الجيش الذي توجّه إلى تدمر ودمّرها بعد تلك الحملة مباشرة.


آلات الحصار

وثمة دليل مكتوب يؤكّد أن أبولودور كان كاتباً بارعاً إلى جانب كونه مهندساً عبقرياً، وهذا الدليل هو كتاب "آلات الحصار"، أحد أهم كتُب الهندسة العسكرية القديمة، وهو مكتوب باليونانية، وحفظ ملخّصاً منه كتابٌ بيزنطي عن الفنون العسكرية. 

يبدأ أبولودور كتابه بمقدّمة على شكل رسالة موجّهة إلى حاكم لم يذكُر اسمه، طلب النصيحة استعداداً لحملة ضدّ عدوّ يحتلُّ قمّة محصّنةً، في مكان لا يعرفه المؤلّف. وعندما طُلب منه وضع تصاميم لآلات الحصار، يعدّد أبولودور تلك الآلات التي يمكن استخدامها ضدّ المواقع المرتفعة، بما في ذلك كيفية الحفاظ على التوازن في المنحدرات، مثل العربات والبراميل التي يمكن أن تتدحرج إلى أسفل التل. وعند الوصول إلى هناك، يقدّم النصائح المتعلّقة بتقويض أحد الجدران، أو الاصطدام بالبوّابة، أو استخدام سلالم هجومية.

ويواصل أبولودور تقديم تصاميمه لآلات متطوّرة، مثل قاذفات اللهب لتحطيم حجارة الحصن، وسلالم استكشافية، وبرج خشبي، وأدوات أُخرى منها جسر عائم مدرع. 

يعدُّ أبولودور الدمشقي أنموذجاً ممتازاً عن طبيعة التفاعُل الحضاري بين الشرق والغرب، ففي الوقت الذي استوعب فيه أبناء المشرق جميع معطيات الحضارة الإغريقية التي فرضها ضُبّاط الإسكندر على مصر وسورية وبلاد ما بين النهرين، عاد أبناء الشرق المتهلينين لنَشْر ثقافتهم المُسمّاة هلنستية في الغرب نفسه. 


* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون