لسانٌ غريب ما زال يَعدُني بلغة

لسانٌ غريب ما زال يَعدُني بلغة

24 ديسمبر 2020
أحمد الملّاح (Kelly Writers House)
+ الخط -

إنكليزية مُرّة

تحفر فيّ لغةٌ ليست واحدةً.
فأجد هذا اللسان الإنكليزي الذي استعمله كل يوم
مملاً في التركيب، حتى في الشِّعر. يَحِزُّ فيّ، يقطعني
في منتصف الجملة، في منتصف العاطفة

لا أفهم هذا الصوت، أرتبك
وأقول لنفسي: فلأتجاهل هذه الكلمات
الخاويات وأمشي في الشارع رافعاً يدي
محيّياً أُناساً أعرف أني لا أعرفهم

في الشوارع أمشي، لا أملك إلا أصداء تملكني
تحفر فيّ هذه اللغة، هذا اللسان الإنكليزي
الذي أريد أن أمسك به بين أسناني فيصرعني

تتراكم جوازاتُ سفرٍ قديمةٌ وجديدةٌ
فوق كتابتي، فيحفر فيَّ أن أستعيد مداخلي 
إلى هذه الجنسية ومخارجي منها، وهي خطوة أولى،
أقول لنفسي، نحو امتلاك شيء من هذا الصوت

وأنا الذي أدين بكل شيء إلى مكان أوّلَ يملكني. ليس 
هنا، حيث ما أملكه ليس لي. زمن مضى. وسنوات
كثيرة نجوت بها لأن هذا اللسان الإنكليزي يطعنني،
لأن هذا اللسان الغريب ما زال يؤمّلني...

ما زال
يَعدُني بلغة.
 

■ ■ ■


وهو ملمومُ

لا تهدر حبراً ولا سطراً واحداً،
ليس هناك متسع لكل هذا التفكير فيك
 وفي غيرك
على هذه الصفحة: أنتَ أنتَ
لا أنتَ أنتَ
قال شاعر قديم مرةً وظلّتْ تُردّد بعده الأفواه.
 كم سنةً؟

ها هي شرفتك 
وهذا انتظار ربيعك يا أبا تمام.
 وكلمتُك كثيراً ما تكونُ والعالمَ واحدةً:
أنت اكتشاف المنفى الحقيقي والنفس
تهيم وتتبناك لتبقى فيك
ملمومةً
الحمد لله على شيء واحد ممكن،
على الحجر
واقفاً 
تحفّ به مرة بعد مرة 
حوادثُ الدهر،
والصوتُ والكلمةُ
وصداهما الذي يجمعنا
ويبقينا 
معا،
كلٌّ
في وحدته.


■ ■ ■


صور

جلسنا معاً، أنا وأنتِ، الأم وابنها
الكنبات بالية والجدران شاحبة بيضاء
قرأتِ الجملة نفسها بصوتٍ عالٍ، مرّة بعد مرّة

أضع يدكِ في يدي. لا أتركها. أقفُ.
شيء ما كان بيننا أو كلّ شيء والعالم
عندك قد مضى، والماضي كلّ شيء

هنا، الصندوق الباهت المليء بالصور
ما زال مقفلاً كصِباك الذي لا أعرف منه شيئاً
فأنا ابنك، الولد الأصغر، ابن سنواتك العتية 

أفتح الصندوقَ الباهت، صوراً بيضاءَ وسوداءَ.
ذراعاك المكشوفتان في الشمس تبوحان بشيء
ويدك النحيلة حائرة على الطاولة

أضع صورة في راحتك، ابنتك وأبنائك،
وأنا ذاك الطفل، الوجه المشاغب، أشير إليه
فتسألين من هو. أقول ابنك. أنا. 


لا تدركين شيئاً. تنظرين إليّ في عجبٍ.
كل شيء مضى ولا حاضرَ الآن إلا
ذهنُك والأوردةُ وعروقٌ تتفجر دماً.


■ ■ ■


خريطة

في الجو

نَمرُّ
فوق أماكن
أعرف أني لن أصلها:

         كلّها هنا
على الشاشة
أمامي

هنا لي 
حتى أراها
على الشاشة فقط

أنظر من النافذة:
نعم،

من فوق الغيوم
يصعب أن تتبيّنَ شيئاً
 من عمّان نمرُّ
     فوق غيم أبيض

فوق القدس الآن

أبحث عن اللغات
على الشاشة:
     هل عربية
هذه الكلمات التي أراها؟

ولماذا ...
ما عدت قادراً على قراءتها.

ربما
أقول لنفسي
ربما


أحتاج 
أن أمسك
          بالأرض
لكي
أقرأَ
الأرضَ.


■ ■ ■


عتمة

من قلب العتمة 
تقفز القطة
على المنضدة
وتحرّك الهواء بذيلها.
 هبّوا أيها النيام!

فيتراءى النهار
خيوطاً تتسلل من النوافذ
هل تهيّأنا له؟

لا تقلْ شيئاً.
فالطاولة صامتة
والكراسي حولها 
خرساء كذلك
 
ونحن علّنا  
ما كنّا هنا قط.


■ ■ ■


بئر

الراهن لا يحدث الآن 
الراهن هو الغائب 
من 
ذاكرة الأشياء المألوفة

*
حين تئن الموسيقى في الداخل
يتبدد كل صمت

فتظل تؤجج ما فيكَ
تظل تتهرّب، تتفادى
نفسَك

ولكن للصوت صدى
وللصدى رجْعٌ
يتردد. 

*
 وأما
العقل فبئر
يمتلئ،
ويطفح،
ثم يغرق.


* شاعر وأكاديمي فلسطيني يكتب بالإنكليزية، صدرت مجموعته الشعرية "إنكليزية مُرّة" عام 2019 عن "منشورات جامعة شيكاغو". حصل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من "جامعة إنديانا" وقبلها على الماجستير في الشعر من "هنتر كوليج". يعيش في فيلادلفيا ويدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة بنسلفانيا. 
** ترجمة عن الإنكليزية: هدى فخر الدين

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون