فلسطين 2023: عدوانٌ أعاد القصّة إلى سِفرها الأوّل

فلسطين 2023: عدوانٌ أعاد القصّة إلى سِفرها الأوّل

02 يناير 2024
طفلٌ يخرج من بين أنقاض مبنىً مُدّمر في رفح، 31 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

اختصرَت الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2023 العامَ كلَّه، ابتلعته تماماً حتى كدنا لا نستطيع تذكُّر ماذا حدث في الشهور التسعة الأُولى، وكأنّ الأيام قبل ذلك كانت تراوح مكانها أو أنّها محض لحظة انتظار للمهول القادم، والفادح الذي لاح في الآفاق ثم جلس ثقيلاً خانقاً على الأعناق والأكتاف. كان العام منذ بدئه استعداداً للحظة السكّين التي تفرم اللحم وتطحن العظم وتُعذّب الروح، كمن ينتظر عملية جراحية خارج غرفة العمليات.

مدّت الشهور الثلاثة الأخيرة من عمر العام الأخير ظلالها على كلّ شيء في فلسطين، دمّرت البُنية التحتية، وأزهقت الأرواح، وعطّلت ما تبقى من حياة، وأزاحت من المشهد ما استطاعت غزّة أن تحافظ عليه من حروب ماضية: متاحفها ومكتباتها وأطلال مسارحها، وكأنّ يد الحرب، كانت تبحث من بين الأنقاض عن كلّ ما حفظ لغزّة هويتها الثقافية على مدار قرون ماضية، فمشى دم نزيفها أحمرَ مخلوطاً بحبر وألوان ترسانة الثقافة المجيدة التي أزهقت بالبطش والجهل وقصدية المحو من التاريخ والجغرافيا.

ثمّة لمحة ثقافية ترفع رأسها من بين ركام ما يحدث

لا تمشي مسارات الثقافة بالمعاكسة مع ما يجرح حياة الناس ويهشّمها، بل تمشي يداً بيد، بالتوازي والتكامل والانسجام، فقد أعادت الحرب الاعتبار للكثير من المفاهيم، ليس في غزّة/ فلسطين وحسب، بل في العالم العربي كلّه، فمن جهة، أُعيد الاعتبار للمخيَّم، وهو يتردّد صداه على الشاشات، صلباً منيعاً متحدّياً، وكأنّ عقوده السبعة الثقيلة الماضية والتي أمعنت فيه محواً وطمساً وتجاوزاً، فشلت أمامه وتحطّمت وتمرّغ وجهها في غبار الفشل، ليعود مرّةً أُخرى، كما في إشارات غسّان كنفاني وصور ناجي العلي، شكلاً واضحاً للعودة إلى الوطن وإشارة طريق لا تقبل التأويل إلى جدوى المعاناة وحتمية الوصول، حتماً وليس حلماً أو شكلاً.

ولأنّ المخيَّم، وعلى مدار عقوده السبعة، قد شكّل صورة لا لبس فيها لبُؤس الحياة وعقدة الهزيمة في الروح بسبب الاحتلال، ومرادفاً لاستطالة أمد ما سبّب فجائعه، فقد وجّه المخيّم أخيراً، في الضفّة وفي غزّة، لطمة لصورة هذا الاحتلال، هشّمها وفرض عليها أسئلته الصعبة التي لم تستطع أعتى أنظمة محيطه الوصول إليها، وبعدما كان هذا الاحتلال يقدّم النصح والمساعدة لأنظمة التهالك من أجل البقاء، أصبح هو نفسه، وبسبب المخيّم، يستجدي المساعدة ولا يقوى على الوقوف بسببها، ثمّة لمحة ثقافية ترفع رأسها من بين ركام ما يحدث: أنّ الكتابة أخذت بُعداً جديداً وزاوية مغايرة في تناول المنتصر والمهزوم، أو الذي يوجّه اللطمة في مقابل الذي ينتظر ارتطامها بالوجه؛ ستفرد نفسها عميقاً وطويلاً في أشكال الكتابة وتقنياتها النفسية للأجيال القادمة.

وبالنظر إلى سعي الاحتلال مراراً وتكراراً بالقوّة المفرطة واللين الخبيث، وقد حاول تطبيع نفسه وتسويق صورته، في ذهن المستعمَرين ثابتاً مستداماً لا يتزحزح ولا يتراجع، مرّة بكَيِّ الوعي، ومرّة بجزرة الإجراءات وفتات الحياة الرغيدة، إلّا أنّ الحرب الأخيرة قد أعادت القصّة إلى سِفرها الأوّل: الشعب لا ينسى احتلاله، لا يتصالح معه، ولا يعيش في ظلاله، عاد الاحتلال مرّةً أُخرى إلى الذهن عدوّاً أوّل، ناشزاً عن طبيعته، وحصاة في حلقه، لا يستقيم العيش إلّا بلفظه بعيداً.

أعادت الحرب الاعتبار لكثير من المفاهيم، ليس في غزّة فحسب

هذه الدينامية الثقافية، وما ترافَق مع صعودها من جراح ونزيف وخسارات، لم تأت من أريحية في التأمّلات ولا رغد في التقاط الدلالات. لقد نحَت الفلسطيني من لحمه وعظمه وعمره عميقاً من أجل أن تعود بوصلة خياراته سليمة وناضجة وواضحة ومؤسَّسة لدرب طويل آخر يقوم على استدراك ما فاته من مقاربات تعالج التشوّهات وما أفضت إليه من استهلاك ومظهريات ورتوش غير ضرورية في مسيرة بحثه عن المعنى.

ولعلّ الأدب الفلسطيني، وهو يُنظر إليه بعين الحسد بعد ذلك كلّه، وهو يعيش من جديد ما يمدّه بأكسجين الاستمرار والمواصلة من جديد بالمعاني المتولّدة والصور المجترَحة والآفاق البازغة أصبح يُقارب تحدّياً جديداً في التقاط اللحظة وتطويعها واستنفادها، باعتبارها رصيداً لكلّ فروعه من شعر ونثر ومسرح ورسم وغناء، كأدوات ممكنة بين اليدين ستظهر حتماً كلحظة فاصلة في مسيرته التي شابها ما شابها من نكوص وادّعاء والتباس، بالنظر إلى ما أصاب الطريق من كلّ ذلك، بل أصبح من المُخيف أن تسقط التجربة من جديد في وحل الاتّكاء على الصور المترهّلة والاستعارات المتثائبة التي لا تكمل المشهد ولا تعيد إنتاجه من جديد.

وإذا كان المثقَّف الفلسطيني، في شقّه الغزّي، قد دفع طويلاً ثمن ما أصابه من تجاهل وانزواء أسفل الصورة الكبيرة والتفاصيل المائعة، إلّا أنّ حربه الأخيرة، وما تركت فيه من ندوب الخسارات وشلّالات الدم وتدمير بنيته الثقافية التحتية منحته من جديد صوتاً واضحاً عصيّاً على الإخفاء والتجاهل في مقابل الحضور وجهورية الصوت من جديد، وليس ذلك فحسب، بل فرادة قلّ نظيرها في أدب الناجين من الحرب.

لم يكن عام 2023 لفلسطين، ولجغرافيتها المتخيَّلة المترامية هنا وهناك بفعل اللجوء والتشرذم، درجة صعود على سلّم في الوضع الطبيعي أو خطوة تقدُّم إلى الأمام بقوّة الدفع الذاتي، بل كان نحتاً مؤلماً في حضرة الدم الكثيف للذات الواعية، نحتاً يزيح الالتباسات والأوهام ويؤسّس لخريطة طريق جديدة واضحة المعالم، قصيرة الطرق، طويلة النفس.

لم تنته الحرب طبعاً، ولعلّ الكثير من الشوك لا زال يأكل الجسد في ضجيج العضّ على إصبع الصبر وانفلاتة إشارته بالنصر، لكنّه ومهما لوّحته الظروف، سيظلّ جاهزاً بالوعي والانتباه والالتقاط لما تخبّئه الأوقات من خرائط جديدة للسير.


* كاتب من فلسطين

موقف
التحديثات الحية

المساهمون