فارٌّ من خطيئةٍ لم أرتكبها

فارٌّ من خطيئةٍ لم أرتكبها

09 يوليو 2022
"موت الطفل"، للفنان العراقي محمود صبري، 1963
+ الخط -

على جَبهتي تحسَّسته موشومًا
- اسمي - 
وليس من مرآةٍ كي أقرأهُ فيها.

إنَّني في عَراءٍ لا يُشاركني فيه سوى ظلّي
مستوحشًا يطأُ أرضًا غريبةً للمرَّة الأولى
تناديه أشباحٌ من خلفهِ
وفي جسدهِ رعشةُ الغريب
ويجرُّه التيه من أمامهِ
فينقاد خلفه وفي خطوتهِ عثرةُ هالكين.

عليها أيضًا
صدى صُراخٍ يَنْحتُ المقادير.

على جبهتي وجدتها موشومةً
خارطةً وأسماءَ مدنٍ وعبادٍ سأُحبّهم وآخرين سيقتلونني
وجدتُ أديانًا منقوشةً وجنانًا مُسجَّلةً بأسماء لم يكن من بينها اسمي
كنتُ مطرودًا يبحثُ عن خلاصٍ ولكنَّ القفار تنبح في وجههِ أنَّى توجّه
مسلوبًا لا جوقة نساءٍ تبكيه.

كنت أوَّل الواصلين إلى أرضٍ سيرتُها مكتوبةٌ بالدَّمِ
متأخّرًا عن قسمةٍ لم يكن نصيبي منها سوى الخراب.

أقرأ شهقةً منكوبةً في صدرٍ تلتهبُ فيه الصَّحاري
أقرأ عتابًا يقطعُ لساني
أقرأ... ما أنا بقارئٍ سوى ضياعٍ
هو ضياعي.

أتصفَّحُ صحيفتي فأجدُني فارًّا لا يستريحُ على ربوةٍ
ظمآنَ وفي يمينه بحارٌ لا يغرف منها
متعباً ولكن حتّى في أحلامه محكومٌ بالفرار.

فارٌّ من خطيئةٍ لم أرتكبها، لكنّها حَدبةٌ تكبر على ظهري
من حكمٍ مؤبَّدٍ بالهزيمة
من حروبٍ كنتُ فيها كلَّ القتلى
ومن أسرٍ طفتُ به حافيًا بُلدانًا من الشوكِ والشظايا.

يا صحيفتي المكتوبة على ورق الخذلان
يا صحيفتي المَمهورة بالمدامع.

مذ استيقظتُ وعلى رقبتي يدور سكّينٌ أعمى يُردِّدُ نشيد الأضاحي
مذ استيقظتُ وعلى كتفي غرابٌ يحفرُ في لحمي لحدًا ويوسِّعه.

في حنجرتي يتورَّم الصمتُ
وفي قدميَّ تنتحرُ الخرائط 

إنَّني ميِّتٌ يشاهد ميتته
ميِّتٌ وأنا قبري.

نعشٌ من الريح
وكفنٌ مغزولٌ من الهَباء مطرَّزٌ بالعبث
أقرأُ على جسدي مرثيَّة التائه في محنته
وأبكيني قتيلًا بطعنةٍ من خنجر الفناء.

هكذا أتخيَّلُ جنازتي
فكم عليَّ أن أتخيَّلَ مشيِّعين لا أعرفهم
والذين أعرفهم صرعى.

أصادف في طريقي الموبوءِ بالنَّدمِ محرومين
يضفرون رغباتهم كي يُشنقوا بها
ومنسيِّين
لم تلامسهم الأقلام ولم يُذكَروا في الصحف
فائضين إلّا عن ألمٍ ينخر وجودهم بصمت.

أُصادفُ مطرودينَ من هامشٍ إلى هامش
ومنهوبين تُطاردهم أشباح الفلاة.

إذن من سيُنزل لنا سلالم الشَّفاعة؟ 
من سيقول: لكم المقاعد في باص الفرقة الهاربة
اصعدوا، ناجين بلا سجلّاتٍ وبلا فضائح؟

من سيعثر علينا
ونحن في الدَّرك الأسفل من النّوائب؟

لا مؤنِسٌ سوى حجرٍ يُشعلُ نفسَه في القشِّ كي أستضيء
ويعزفُ لي مقطوعةً يحفظها من بقايا نهرٍ قديم

لا صحبة سوى ظِلٍّ يُشاركني وحشةَ الغابِ
ورسم الخرائط للمُخلِّص كي لا يتأخَّرَ على محنتي ويتيه.

لا يجاورني غير طيرٍ ضيَّع البيت واحتمى بخوفي
وبحرٍ تُعربد فيه المنارة، والمرسلون في أعلاها سيطفئون الضوء.

إذن، كلُّ من عليها مُكفّنٌ بالفخاخ
كلُّ من عليها تحت لسانهِ لحدٌ
يحمل شاهدته معه
وقبره محفور.

تطاردني برازخ كُتبت على أبوابها ذنوبي التي لم أرتكبها بعد
وينتظرني جلّادون كي يختموا على جسدي إِذنَ عبوري إلى التَّهلكة.

صلّوا لأجلي
وحشتي بيدي
وبراءتي في فم الذّئب.


* شاعر من العراق

المساهمون