عامٌ لم يكن شراً مطلقاً على الضاد

عامٌ لم يكن شراً مطلقاً على الضاد

01 يناير 2021
(من إجراءات الوقاية من كورونا في مدرسة تونسية، Getty)
+ الخط -

أسدل السِّتار على سنة 2020، بعد أن تركَت وهي ترتَحل، إحْدى آلَم الأزمات الصّحّيّة في عصرنا، بسببٍ من انتشار فيروس كورونا. لكن، من مفارقات الأقدار أن أبانت هذه الجائحة عن ابتكاريّة قُوى الثقافة العربيّة للتَّكيّف مع أغلالها والعملِ في ظروفٍ عَسيرة، مع غيابٍ شبه تامٍ للمؤسّسات الرسميّة. ولعلّ سرديّة التاريخ، التي سترويها الأجيال اللاحقة، أن تسجّل سورةَ التضامن الرائعة، التي ما عرفها مسار الضّاد من قبل. فقد شمَّر الفاعلون في قطاع الثقافة عن سواعد الجدّ، خلال فترةٍ وجيزة، من أجل ملء غيابهم الجَسدي الذي فَرَضتْه حَركات الإغلاق وحَظر التجوّل.

وأولى علامات هذا النّشاط، ازدهار مسارات تَعليم الضاد وآدابها وقواعدها وحضارتها، عن بُعدٍ. ففي سُرعةٍ قياسيّة، تكيَّف الأساتذة مع وضعيّات التدريس الجديدة، رغم وجود قطيعةٍ رقميّة بين البلدان والمناطق، والتزموا في المعاهد والجامعات، وحتى في المدارس، بمواصلة نشاطهم التربويّ والبحثي. فبعد فترة من التخبّط والبحث، توصّلوا إلى ابتكار مضامين بيداغوجيّة (وثائق سمعية- بَصريّة، تمارين تفاعليّة، أسئلة تعتمد التفكير بدلَ الحفظ والنقل الحرفي، تطبيقات، ورشات...) لتساعدَ الطلابَ على ملء فراغٍ خلّفه غيابهم.

نجحت الضاد في توليد معجمٍ كاملٍ جديد مرتبط بالوباء

ومن المُبكّر اليوم أن نقيِّم نتائج هذا التحوّل المِفصلي الذي طاول مؤسّسات تعليم اللغات في بلداننا، قبل أن ينكبّ عليه علماء النفس المعرفي والتربية لمعاينة آثار الوسائل الرقميّة في اكتساب المهارات اللغوية وتمثلها وإعادة إنتاجها، لاسيما وأنّ غالب هذه المبادرات كانت عفويّة فرديّة، لم تسهم فيها مؤسّسات دُولنا إلا بالقَليل.

من جهة ثانية، نَشطت كلّ الفعاليات الثقافيّة ذات الصلة باللغة، من محاضرات ولقاءات وترجماتٍ ومسابقات وإعلان نتائجها وندواتٍ فكريّة ودوائر مستديرة (...)، على مدارج الشَّبَكة الافتراضيّة، وكأنّ اللغة وسَورةَ الفِكر يأبيان أن تنحصِرا في سجن المكان ويستَعصيان على الحَظر. فضمنَ القيّمون عليها سيرًا شبه "عادي" لفعالياتهم. ولعلّ السهولة اللوجستية التي توفّرها تطبيقات مثل زووم، أسهمت في تكثيف هذه التظاهرات اللغويّة وإنعاشها، فرُبطت الصلات بين العديد من أساتذة العالم العربي ومفكّريه، بعد أن كانت المسافات الجغرافية تَمنع تعاوُنَهم وتَحول التعقيدات اللوجستية من إجراء لقاءاتٍ بمثل هذه الكثَافة. ففي ظرفٍ وجيزٍ، صار لكل جامعة شَبكة خاصّة، ونُظّمتْ لقاءات افتراضيّة تصل بين مشارق الوطن العربي ومغاربه، يغذّيها شَغَفٌ لا يَهِن بالضّاد، رابطةٍ لا تنفصم عُراها ولو في أعتى الأزمات.

ومن رَحِم هذه الأزمة، تناسلت جهودٌ جبّارة بذلها العاملون في قطاع التعليم من أجل التأقلم السريع مع الغياب، ولم تكن لأغلبيتهم أدنى خبرة في مجال الأدوات الرقميّة. والأدهى أنّ العربية لا تتوفّر على مَضامين بيداغوجيّة مَتينة متماسكة، متصوَّرَةٍ وَفقَ خطّة شاملة، إلا إذا استثنَينا ما قام به قسم "تعلّم العربية" في موقع "الجزيرة. نت" والذي شهد استعمالات مكثّفَة، ولاسيما في ديار الغرب، لدى الناطقين بغَير لساننا. وهو ما يَشي بقصور التعليم التقليدي للضّاد وينادي بضرورة تدارك عقودٍ من التخلّف البيداغوجي، مقارنةً بما تحقق في تدريس اللغات الأخرى، التي تملك عشرات المواقع والنصوص والمستندات والوثائق، في حين لا نزال نَتَرسّم الخطى الأولى في مَهامِهِ الشّبَكة وثناياها.

بقيت اللغة رابطة لا تنفصم عُراها ولو في أعتى الأزمات

ومن مظاهر هذا الترسّم ما انبَجَس، بعد بحثٍ، من فَتيّ المفردات والمصطلحات، فقد نجحت الضاد في توليد معجمٍ كاملٍ من الألفاظ الدّالة على ظواهر الوباء ومرجعياته مثل: التباعد الاجتماعيّ والحَجر والغَلق والإجراءات الوقائيّة... وعشراتٍ غيرها من الصّور والتراكيب طفحت بها الخطابات الطبّية والرسميّة والتي أظهرت كفاءة آليات الاستحداث في إيجاد المقابلات العربيّة، لما طرأ في الساحة العالميّة من المدلولات المقترنة بهذا الوباء. فقد تمكّن الصحافيّون والأطبّاء والساسة من ابتكار كلّ ما يلزم من الكلمات في سبيل الدلالة الرشيقة السليمة على هذه المدلولات من دون حيْدٍ خطير عن قواعد اللغة وآليات التوليد.

إلا أننا لا يمكن أن نتغاضى عن ظاهرتَيْن وَسمتا هذا التعامل المعجميّ مع الجائحة: فمن جهة أولى، لم يَظهر في الضاد قاموس خاصٌّ بمفردات الوباء، كما ظهر في اللغات الأخرى، التي رَتّبت كل المفردات والعبارات المستحدثة للإشارة إلى ظواهره. ومن جهة ثانية، لم تضمّ طبعات المعاجم العربية الجديدة، إن أنجزِت، هذه المفردات إلى متونها حتّى يُسند لها حقّ الوجود ويُقَرَّ استخدامها أو يُرفَض، فلا تَبقى مجرد اجتهادات معزولة، تصارع من أجل البقاء في متاهات الاستعمال أمام هجمة العاميّات وأجنبيّ المقابِلات. ويذكرُ مثلاً أن Le Petit Robert، المعجم الفرنسي قد ضمّ في طبعته السنوية العديد من المُولّدات التي خلفها ظهور كوفيد-19 في لسان موليار.

وأما الكُتب التي صيغت، هذه السنةَ، حول العربيّة فَحصيلتُها ضعيفة، ومن أبرزها كتاب "رشفاتٌ من العربية: محاضراتٌ في التدقيق والتحرير" للباحث اللغوي الفلسطيني إلياس عطاء الله، (دراسات لسانية ومعجمية- عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات") و"المعجم المدرسي: دراسة تحليلية للوافر وجيز" (منشورات "عالم الكتب الحديث") للباحث المَغربي محمد الرفيق، وكتاب عبد العلي الودغيري "العربية أداة للوحدة والتنمية وتوطين المعرفة"، ثمّ كتاب "أوضاع اللغة العربية في القرن الأفريقي" لعبد النور حمد وعبد الوهاب بشير، و"الإنسان والعمران واللسان" لإدريس مقبول. وجلّها دراسات عامّة لا تَحمل اختراقًا فعليًّا في مجال المَعجَمَة.

وهكذا، فَتنشيط فعاليات التعليم عن بُعدٍ والمبادرة بتوليد مفردات حادثة عن الجائحة واستمرار الدراسات المعجميّة العامّة، هي أبرز ملامح العمل على الضاد هذه السنة. وهي أنشطة تؤكد تلك المفارقة الأليمة: تواصل المجهودات الفرديّة المنعزلة والاجتهادات الشخصيّة وسط انشغال مؤسّسات الدّول العربيّة الثقافية بما تعتبرُه ضروراتٍ عاجلة. فهل يجب تذكيرها أنّ الاعتناء بالضاد وتطويرها كلسانٍ معاصر وتحسين أدوات تَلقينها واكتسابها من بين آكَد ضرورات هذه المؤسسات الساهرة على خدمة الشأن الثقافي؟ ما عسى الطالب يفعل، وهو محتَجَز بين أربعة حيطان، ولا نتحدّث عن أبناء المخيمات وأحياء القصدير التي لا حيطان لها، إذ لم توفر له الدّولة ومراكز بحثها البيداغوجي وسائل تدريس اللغة ونصوصها وآدابها وقواعدها وحضارتها؟ نعني الكتُبَ، حدًّا أدنى وآليات المعلوماتية وحواسيبها كأفقٍ أمثَلَ. وكيف له أن يتجاوز كارثيّة أوضاعه إن لم تمدّه بأبسط المستندات اللازمة لترسيخ معارفه وسط الخواء المريع الذي خلفه غياب المُعلم؟ ستبقى سَورة هذا الأخير، وهو سجين مَكتبه ببَيته، يناضل من أجل استمرارية التعليم، من أجمل ما تَرويه الأجيال اللاحقة في سرديتها عن كوفيد وآثاره. 

كما سيسجّل مؤرّخو الضّاد كيف أسْعَفتْ أهلَها بالعِبارة عن كلّ وجوه الداء دلالةً وبيانًا. ونِعم ما أبلت الضاد في إسعاف أهلها لمقاومَة الوَباء، حديثًا وسردًا، مَلحمة الإنسان يتردّد صَداها أمام وزارات التربية المُغلقة ومجامع لغتها المتناحرة.

 

المساهمون