سيمون فتّال.. مذكّرات طفلة من آخر الأربعينات (3/1)

سيمون فتّال.. مذكّرات طفلة من آخر الأربعينات (3/1)

04 أكتوبر 2021
فتّال تتوسّط زائرَيْن يشاهدان عملاً لها في معرض بجزيرة ميكونوس في اليونان، 2019 (Getty)
+ الخط -

قالت في التليفون: غادرنا باريس؛ نحن في الشمال، في إقليم بروتاني.

قلت: إذاً نلتقي الأسبوع المقبل. أريد مراجعة الحوارات قبل أن أعود إلى أمستردام.

قالت: صعب؛ جئنا، إيتل وأنا، قبل أسبوع، وسنظلّ هنا إلى أوائل أيلول/ سبتمبر.

وبعد لحظة صمتٍ، واصلتْ: تعال أنت إلى هنا، ثم كرَّرَتْها.

بعد يومين ركبتُ القطار من باريس إلى مدينة رين، وبعد رين قطار آخر إلى مدينة لامبال؛ ها أنا أوغل في عالم من الضوء الرمادي الضارب إلى بياض، السُّحب الواطئة والأشجار العملاقة وغابات بروتاني المنعزلة، السوداء الكثيفة. نقيض غابات وأحراج منطقة بروفنس المضيئة بزرقة سماء المتوسط، حيث كنتُ قبل أيام. هنا أنتَ لست في فرنسا، أنتَ في إقليم بروتاني؛ الطبيعة شبيهة بطبيعة إنكلترا.

ربما الاسم هو الذي أقحم في وهمي هذه المقارنة، ولكنّ كل شيء مختلف في هذا الريف الذي يوغل فيه القطار: شكل بيوت الفلاحين الحجرية المستطيلة ذات سقوف القش، الدروب الخالية من السيارات، صمت العالم... تمرّ بنا يافطات بأسماء مدن غريبة يتردّد فيها حرف الكاف: سان بريوك، كارنافال، إيركي. تذكّرت الشاعرة هيثر دوهولو (Heather Dohollo)، صديقة لوران غاسبار، كانت رسائلها تأتيني من هذه المدينة: سان بريوك! بعد لحظة، يافطة أخرى وسهمٌ يشير إلى طريق مدينة دينارد. آه! أهذه دينارد التي جعلها الشاعر الإيطالي أوجينيو مونتالي عنواناً لنصوصه النثرية: "فراشة دينارد". كم أحبّ هذا العنوان، هذه الفراشة التي حامت حوله وهو جالس في ساحة دينارد وفي لحظة تحوّلت إلى أبدية...

قبل الغروب وصلت إلى آركي. عالمٌ صامت وخاوٍ؛ سماء شاسعة قريبة من الأرض وبحر بدا من نافذة غرفتي في الفندق كما لو كان يمتدّ إلى نهاية العالم...

هناك في آركي، القرية البحرية في قلب منطقة بروتاني ذات السحب الواطئة. وفي مقهى القرية الوحيد جلسنا، سيمون فتّال (1942) وأنا، نراجع صفحات الحوار/ السيرة، نراجع الأجوبة التي نسختُها طيلة سنة 2020. أجوبة لأسئلة أردتُها تنشيطاً وتحريضاً للذاكرة. كنت أريد أن أضع كتاباً حول حياة هذه الفنانة: سيرةً شفوية. من زمن أحببتُ كُتبَ الحوارات، حيث يتضافر صوتان يستفزّ كلّ منهما الآخر. وحيث قد يصير دور المحاوِر شبيهاً أحياناً بدور المحلّل النفسي، بيد أنّي تجنّبت التنقيب في عوالمها الداخلية. أردتُ الحوار روايةً شفوية بسيطة منسابة على لسانها. شهادة عن حياة طفلة دمشقية عاشت طفولتها في آخر الأربعينات وأوّل الخمسينات؛ بطاقة بريد بالأبيض والأسود شهادة حية عن مدينة لم تتريّف بعد، تسكنها عائلات كبرى تعرف بعضها بعضا، ذات تقاليد راسخة. شهادة عن عالمٍ اختفى في ظلام الزمن، شهادة تروي تفاصيل حياة الناس. التفاصيل التي قد تقول عن التاريخ أكثر ممّا تقول الأحداث الكبرى التي تشغل المؤرّخين...

هنا الجزء الأوّل من هذا اللقاء.


■ ما الذي بقي لك من طفولتك في دمشق؟ ماذا تتذكّرين من عوالم الناس والأشياء المحيطة بك؟ 

- كانت طفولتي في دمشق - كما تبدو لي الآن - ساحرة. لقد ملأني وجودي في المنزل مع والديّ بالبهجة. كنت طفلة سعيدة. أستطيع أن أقول إن هذا الشعور الراسخ بالامتلاء والاطمئنان المطلق الذي كنت أحسّ به في ذلك المنزل القديم لم يتكرّر أبداً في حياتي. كان شعورًا قويًا بالانتماء إلى المكان. كان لذاك المنزل درج صغير يؤدّي إلى فسحة، ومنها يصعد درج آخر الى الطابق الثالث. أزيل الدرج عام 1955، وهو العام الذي أصيب فيه والدي بنوبة قلبية حادّة ولم يعد بالتالي قادراً على صعود تلك السلالم التي كانت شديدة الانحدار.

كان بيتاً مبنيّاً بالحجارة العارية. وكان يبدو لي في طفولتي البعيدة عاليًا جدًا، ولكن وعندما كبرت وعدت إلى دمشق بعد غياب طويل، بدا لي البيت صغيرًا، وشعرت بخيبة ومفاجأة في آن... كانت غرفتي في الطابق العلوي وكان مكتبي يواجه الحائط، وفي هذا المكان أنجزت واجباتي المدرسية: درست الآداب والعلوم الطبيعية: الزهور والطيور، والجغرافيا والتاريخ كما كانت برامج التعليم في ذاك الزمان، قبل أن تطغى فلسفة الاختصاص على مناهج التعليم.

يقع هذا المنزل المتشكّل من ثلاثة طوابق في حي الصالحية، الجديد. في الزاوية التي تسمّى أيضًا ساحة النجمة، وسط بستان كبير يمتدّ حتى الساحة. وفي وقتٍ لاحق تمّ تشييد مبنيين. واحد في طرف هذا البستان أقامه المحامي والسياسي السوري يوسف حكيم... أجزاء مذكّراته الثلاث التي نشرها أخيرًا ما تزال فوق مكتبي تنتظر قراءتها. وقد احتفظ الابن وكذلك الحفيد بمكتب يوسف حكيم للمحاماة، ممّا أعطى مثالًا نادرًا للاستمرارية في هذه المدينة التي عصفت بها اضطرابات سياسية واجتماعية غير مسبوقة. بعدها جاء آل الضباعي وأقاموا مبنىً ثالثًا.

كنت أذهب مع أمي إلى دمشق القديمة في عربة تجرّها الخيول

لكن لنتحدّث عن طفولتي المبكرة. أتذكّر، كنت أمضي مع أمي ظهر كل يوم في عربة تجرّها الخيول لزيارة جدي في البلدة القديمة. كنا ننطلق من الصالحية إلى باب توما، وهو أحد بوابات دمشق القديمة السبع؛ كان سور المدينة ما يزال قائمًا، وتستطيع أن تراه في أماكن عدّة من دمشق. وبخاصة من جهة الحي المسيحي، حيث كثيرا ما كنّا نزور الكوّة التي مكّنت القديس بولس من اجتياز السور والنزول في سلّة والهرب من الرومان كما تقول الرواية. في وقت لاحق تم أيضًا توسيع هذه الساحة وبالتالي هدم الكثير من المنازل. فكنا نمر من باب توما لندخل الشوارع الضيقة للمدينة القديمة. كان بيت جدي من أجمل البيوت في باب توما، وقد بناه أبوه بحجر حوران الأسود. هناك ُولد جدي وهناك عاش. آه! ما أزال أشمّ رائحة مقاعد العربة الجلدية، وأرى الفوانيس النحاسية المشتعلة على جانبيها، وكُرة الزمّير المطّاطية الحمراء التي إذا ما ضغط عليها السائق أصدرت صوتًا ينبّه المارّة ويطلب منهم إفساح المجال. أتذكّر السائس بطقمه الأسود الجميل... كانت أمي مشغوفة بوالدتها، وبعد رحيلها انتقل هذا الشغف إلى أبيها، يعني إلى جدي...

كانت جدتي تسمى هايدفيغ (Heidwige)، كان أبوها نمساويًا واسمه فرانز باير (Payer)، وكان باير هذا قد استقرّ في دمشق مثل كثير من الألمان والنمساويين زمن الإمبراطورية العثمانية. في ذلك الوقت كان هناك الكثير من العلاقات الجيدة مع مواطنين ألمان أو نمساويين من تجّار وصيارفة وغيرهم. تزوّج فرانز باير من إحدى أجمل الفتيات المسيحيات في دمشق. قيل، كان الشباب يكاد يُغمى عليهم لدى رؤيتها ذاهبة أو عائدة من الكنيسة. أنجب باير ابنتين من هذا الزواج، ولكن كلا الزوجين سيموت صغيرًا. وهكذا وجدت البنتان، ماري وجدتي هايدفيغ، نفسيهما يتيمتين. وعندما تزوجت الأخت الكبرى ماري من شكري عرقتنجي، استسلمت أختها هايدفيغ لأخيه إلياس. لقد أرادت هايدفيغ أن تظل بجانب أختها.

كانت جدتي هي أيضًا شهيرة بجمالها الفائق. وكان لها يوم في الأسبوع تقيم فيه حفل استقبال، هو يوم الجمعة، ولم يكن أحد يتخلّف عن هذا الموعد. حكت لي أمي أن النمساويين كثيرًا ما كانوا يأتون ويؤدّون رقصة الكوادريل حول البِركة أو البحرة التي تتوسّط باحة البيت، وبعد الحرب حلّ الفرنسيون محلهم، ولكن لم تكن لهم لا وسامة ولا سَمْت ضبّاط الإمبراطورية النمساوية.

خلال الزيارات الأولى التي أتذكّرها، كانت جدتي لا تزال مريضة، وسريرها قد تمّ إنزاله إلى غرفة المعيشة الكبيرة في الطابق الأرضي. أخبرتني والدتي أني كنت وبمجرد دخولي البيت أركض نحو جدتي وأتسلّق سريرها. ويوم وفاتها، لم يسمح لي بدخول غرفة المعيشة، بقيت في الليوان الصيفي...

ما أزال أتذكّر ذلك العالم. الفناء والبِركة بمياهها المرتعشة، وأشجار الفاكهة المحيطة به، والمرايا، والطابق السفلي الكبير - والقبو - والعريشة في الطابق العلوي. كثيرا ما كنا ننام في هذا المنزل. كما تسلّقت شجرة ياسمين السُلّم الأزرق، ونشرت رائحتها. كانت غرف النوم في الطابق الثالث، أتذكّر السلّة المعلقة بحبل على درابزين كنا نُنزله من الشرفة لنملأه بالفاكهة وغيرها من الأطعمة الشهية. أتذكّر بشكل خاص الكمّثرى التي نسمّيها "يافاوي"، نسبة إلى مدينة يافا في فلسطين. كانت صغيرة وحلوة، وردية وبيضاء القشرة. كان عالمًا فردوسيًا من الجمال والسعادة.


■ وجدتِ نفسَكِ من الأوّل في ملتقى ثقافات متعدّدة وروافد مختلفة: عربية وعثمانية ونمساوية، من ناحية جدّ أمك، باير؛ كيف بدا لك هذا العالم العائلي الصغير وأي أثر تركه في نفسكِ؟

- هذا السؤال بالغ الأهمية ومتّسع المجال. في الواقع، كانت الثقافات الثلاث حاضرة منذ البداية. يجب أن أتناول تاريخ الأسرة: في رسالتي الإلكترونية السابقة، تحدثت عن منزل جدي. كان جدي يعمل في شركة التبغ ما جعله يذرع سورية ولبنان على ظهور الخيل.

أمّا جدي لأبي فقد كان ترجمانًا (Drogman) للإمبراطورية النمساوية المجرية في الدولة العثمانية. أتذكّر تلك الصورة على البوفيه في الصالون التي ملأت طفولتي والتي يظهر فيها جدي وهو يقف في زيّه الرسمي: البزة المطرزة بالشرابات الذهبية وصدره مغطّى بالنياشين العثمانية والنمساوية.

في أثناء الحرب العالمية الأولى، زار أحد أمراء عائلة هابسبورغ النمساوية دمشق ونزل ببيت جدي. كان مرور موكب هذا الأمير في شوارع باب توما حدثًا كبيرًا، فكان سكّان الحي يخرجون من بيوتهم لمشاهدة مرور العربة الأميرية بخيولها المطهّمة.

حكت لي أمي أنّ النمساويين كانوا يأتون ليرقصوا في باحة بيتنا

كان لجدّي صديق آخر كبير هو الأب ألويس موزيل (Alois Musil)، وموزيل هذا ابنُ عم الكاتب العظيم روبرت موزيل. كان كاهنًا وعالم آثار وهو مكتشف قصور بني أمية الصحراوية. وكان يقوم للإمبراطورية النمساوية ـ المجَريّة في سورية بنفس الوظيفة التي كان يقوم بها لورانس العرب لصالح الإنكليز في الحجاز. عمل الأب موزيل على تقوية الروابط بين سورية والنمسا، وكان بطبيعة الحال يقوم بكتابة التقارير الاستخباراتية. وقد سجنه الباب العالي تمامًا مثل لورنس العرب. ولكنّ جدي هو الذي سعى لإخراجه من السجن.

من الأقاصيص التي تُروى أنه كان يحضر مآدب إمبراطور النمسا، فرنسوا جوزيف، وكانت طاولة الطعام طويلة للغاية والأب يجلس في آخرها، وبما أنه من الطبيعي خدمة الإمبراطور في الأول فقد كان يتأخّر وصول الطعام إلى الأب موزيل الذي يكون قد بدأ يتضوّر جوعًا، فصار يحترز لذلك بأن يتناول طعامه قبل حضور مآدب إمبراطور النمسا الذي سأل يومًا لماذا الأب موزيل لا يأكل...

في أي حال، قام الأب موزيل بترتيب برنامج بعثة دراسية للشباب السوريين في فيينا. تشكّلت البعثة من أكثر من مائتي شاب، كان من بينهم أبي وعمي. قيل أيضًا إن الأمير هو الذي أرسل الشابَّيْن إلى فيينا اعترافًا بالجميل لجدتي على كرم ضيافتها أيام الحرب. وهكذا قضى والدي عدة سنوات في فيينا لإكمال تعليمه العالي. وباندلاع الحرب، انقطعت المنحة التي كانت تصل إليه من العائلة فقام بتدريس اللغة العربية للنمساويين لتأمين مصاريف إقامته. ولدى عودته قام بتوسيع أعمال والده التجارية بالحصول على وكالات جديدة للشركات الأوروبية، إضافة للنمساوية والألمانية والتشيكية.

في تلك الفترة أُعلن استقلال سورية واستقبل أبي الاستقلال بحماس غير عادي. قال: أخيرًا سنكون قادرين على العمل في بلدنا بكلّ حرّية، لأنه حتى ذلك الحين لم تتمّ مقاطعة العلامات التجارية الألمانية فحسب، بل كان كلّ المتجر في أيدي الفرنسيين.

أصبح والدي بمرور الوقت قنصل النمسا في سورية. كان لدينا العلم النمساوي على السيارة وعلى الشرفة. أتذكر أبي أيام الآحاد وهو في غرفته غارقًا في قراءة الصحف الألمانية والنمساوية. وهذا لم يغيّره ثقافيًا، بل ظلّ متعلّقًا بلغته وعروبته. وكلّ رصيدي من اللغة العربية تعلّمته في البيت. في الحادية عشرة من عمري ألحقوني بمدرسة سيّدات الناصرة في بيروت، حيث تعلّمتْ أمي. المفارقة أنّها كرهتْ هذه المدرسة ولكنّها ألحقتنا بها...

الأرشيف
التحديثات الحية

المساهمون