حين لم أُصبح أفضل لاعبٍ في العالم

حين لم أُصبح أفضل لاعبٍ في العالم

20 نوفمبر 2022
صبيّ فلسطيني يلعب كرة القدم أمام قبّة الصخرة، مايو/ أيار 2014 (Getty)
+ الخط -

شيطان كرة القدم

نادتني أمّي فجأةً كي أشاهد أبي في التلفاز. استلم الكرة في منتصف الملعب بعد صافرة البداية. شقّ طريقه مراوغاً كلّ لاعبٍ. وكلّما قلّت المسافة بينه وبين المرمى، ازداد هتاف المعلّق باسمه. وفي النهاية، أحرز الهدف وحده.

لا أعلم مقدار الحقيقة والخيال في هذه الذكرى الأقدم لديّ عن كرة القدم، إذ أخشى أن أُفسدها إن سألتُ والديّ عنها، لكنّني ما إن كنتُ ألامس الكرة، حتّى يُحبَس الشكّ خارج جسدي.

لم أكن أرغب في شيءٍ سوى أن أمارس كرة القدم. كنت ألعب في الملعب القريب مع الفِرَق التي ينقصها لاعبٌ حتّى تكتمل. انضممتُ مرّةً إلى نادي بلدتنا، فشعرتُ بأنّ أوامر المدرّب تصادر منّي حريّة اللّعب، فغادرتُ. فكرتُ في أنّي سأصبح لاعباً محترفاً بعد أن أتخرّج من المدرسة، لا لأجل المال، بل لكي ألعب قدر ما أشاء دون أن أموت من الجوع.

كنتُ طفلاً وحيداً يعاني من عواطفه، وكانت هذه الرياضة نوعاً من "التطهير"، طقساً قادراً أن يقلّص في لحظات الذروة الكرةَ الأرضيّة إلى أُخرى تنقاد بالجسد.

ولأنّ كرة القدم بيضةٌ كونيّةٌ يمتزج فيها الإله بالشيطان، فقد تخرج يده فجأةً من الكرة لتشدّ الراكض وراءها، فيصاب، ويُجبر على التوقفّ عن اللعب فترةً من الزمن، مثل ما حدث لي في بداية سنتي المدرسيّة الأخيرة، حين كسرتُ ذراعي اليمنى.

وبعد التخرّج بفترةٍ قصيرةٍ، كسرتُها مجدّداً في مكان الكسر السابق ذاته، فأخبرني الطبيب أنّني أمتلك عظماً رقيقاً كجناح عصفورٍ، وعليّ أن أُجري عمليّةً لوضع شريحةٍ معدنيّةٍ ومساميرَ لتثبيت الكسر.

مُنعتُ من اللعب سنةً كاملةً. كان عليّ أن أجد شيئاً آخر يسيطر عليّ. سجّلتُ في الجامعة، وانهمكتُ في القراءة التي تناسب طبع وحدتي، كي أُرهق جسدي بالخيال، فأُلهيه عن رغبته في الركض وراء الكرة إلى أن تُطفأ الأضواء.

ولأنّي اعتدتُ أن أُحاكي مهارات اللاعبين التي تعجبني، قادتني القراءة إلى محاولاتي الأُولى في الكتابة، فصرتُ أكتب عن علاقتي بكرة القدم، سامحاً لمشاعري وأفكاري أن تصبح مرئيّةً أمامي.

شككتُ في الهدف الذي سجّله والدي، وفي موهبتي. أخذتُ أُدرك أنّ الاحتراف لا يناسبني، فلم أكن أُحبّ الالتزام، ولا العمل الجماعيّ. كنتُ لاعباً أنانيّاً في سيركه الخاص، يلاعب الكرة بين أسنان المدافعين، ويفضّل تضييع الهدف على تسجيله بطريقةٍ مباشرةٍ غير جميلة.

وعندما أزلتُ المسامير من ذراعي، جرّبتُ العودة إلى كرة القدم. لكنّ الفجوة الزمنيّة بيننا، وشيطان تكرار الإصابة الذي يحدّق إليّ من وراء ندبة العمليّة، والكتابة التي شقّت طريقها داخلي، كلّ ذلك غدا حبالاً امتدّت من العارضتين والقوائم لتقيّد جسدي في دائرة منتصف الملعب.

اعتزلتُ الكرة، لكنّها بقيتْ جزءاً منّي كندبة ذراعي.

والآن، كلّما أمسكتُ القلم، أتذكّر مشهد والدي دون أن أهتمّ إن كان لم يحدث إلّا في داخلي، مستدعياً به شيطان الخيال، ثمّ أكتب باليد التي كسرتْ ذراعَها كرةُ القدم.


■ ■ ■


رونالدو الفلسطينيّ

أثناء بطولة كأس العالم 2002، وبينما كان جيش الاحتلال يُلاعب أطفال الانتفاضة بالكرات المتفجّرة، أزلتُ العلم الفلسطينيّ وصورة ياسر عرفات في غرفتي، ووضعتُ مكانهما علم البرازيل وملصق رونالدو.

كنتُ أُشبه رونالدو في كلّ شيء، وكان الفرق بيننا كالذي بين الجسد وصورته في المرآة.

أشبهتُه في مراوغاته وسرعته وتسجيله الأهداف، في ارتدائه حذاء نايكي والقميص الأصفر، وفي تفضيله الرقم تسعة، الذي سطا على قدسيّة الرقم سبعة لديّ.

حلقتُ شعري بماكينة والدي، مبقياً بعض الشعر في الأمام، فامتلكتُ نفس تسريحته الغريبة في المونديال، رغم اعتراض أهلي.

وقبل أن يواجه ألمانيا في نهائي البطولة، خضتُ أيضاً مباراتي النهائيّة. طاردني ــ لافّاً وجهي بعلم البرازيل، ومرتدياً قميص المهاجم رقم تسعة وحذاء إلهة النصر الإغريقيّة Nike ــ جنودُ جيش "الدفاع". انفجرتْ قربي كرةٌ منفوخةٌ بالغاز، فسقطتُ على أرضيّة الملعب التي تعجّ بالحجارة، وقلّدتُ نجمي المفضّل في إصابته الشهيرة، مدمّراً مثله وتر رضفة ركبتي.

ورغم أنّ الإصابة أثّرتْ على رونالدو طوال مسيرته، إلّا أنّه تمكّن من الفوز بالمونديال، وبجائزة أفضل لاعبٍ في العالم، بينما حرمتْني إصابتي من إكمال مسيرتي الكرويّة، وأثّرتْ على مسيرتي في المشي.

لا شكّ في أنّني كنتُ سأُصبح أفضل لاعبٍ في العالم، لو أنّني أُصِبْتُ مثل رونالدو في الركبة اليمنى، لا في ركبتي اليسرى.


■ ■ ■


الكابتن ماجد

كنّا أنا وأخي نحوّل مركز التسوّق إلى ملعب كرة قدم، فما إن تدخل أمّي أحد المحلّات، حتّى نبدأ بالركض وتمرير كرتنا الصغيرة بيننا، متجاوزَيْن المدافعِين الذين يحملون أكياس المشتريات، متّجهَيْن إلى المرمى، الذي لا نعرف مكانه، والذي نعثر عليه عندما يظهر حارس أمنٍ فجأةً كي يأخذ الكرة منّا، فنسجّل هدفاً جميلاً بين قدميه، ونقفز احتفالاً نحن والمانيكانات في أقفاصها الزجاجيّة.

كان أصدقاؤنا يلقّبوننا بالثنائيّ الذهبيّ، إذ كنّا نلعب بتجانسٍ معاً مثل ماجد وياسين في المسلسل الكرتونيّ، وكان تبادلنا الكرة معاً قادراً على أن يحوّل لاعبي الفريق الآخر إلى متسوّقين تعجّ أيديهم بأكياسٍ ثقيلة.

انضممنا إلى نادي مدينتنا، وتجاوزنا المراحل العمريّة المختلفة، حتّى غدونا في المرحلة التي تسبق الفريق الأوّل.

كانت المنافسة محتدمةً بين اللاعبين، فعدد الصاعدين إلى الفريق الأوّل اثنان فقط. وكانت المسافة تزداد بيني وبين أخي ماجد، فلم تسمح لي موهبتي المحدودة، ولا جسدي الزجاجيّ كثير الإصابة، بأن أظلّ ياسين الثنائيّ الذهبيّ.

رُفِّع أخي ولاعبٌ آخر أخذ مكاني عنده، واختتمتُ سلسلة إصاباتي بقطعٍ في الرباط الصليبي، فخضعتُ لعمليّةٍ في الركبة، فضّلتُ بعدها التوقّف عن اللعب.

وفي أُولى مباريات أخي ماجد في الفريق الأوّل، جلس على دكّة الاحتياط حتّى القسم الأخير من المباراة، ثمّ أدخله المدرّب مع ياسين. كان فريق أخي متأخّراً بهدف، فبدأ الثنائيّ الذهبيّ بالركض وتمرير الكرة بينهما، محوّلَيْن الملعب إلى مركز تسوّقٍ، وعندما وصلا إلى المرمى، مرّر ياسين الكرة إلى ماجد، فأدخلها بين قدمَي الحارس بلمسةٍ سلسلةٍ، محرزاً هدف التعادل.

قفزتُ فرحاً بالهدف، فآلمتني إصابتي. جلستُ في مقعدي، متحسّساً ــ وأنا أشاهد احتفال الثنائيّ الذهبيّ ــ ندبةَ العمليّة، التي تحوّلتْ إلى طريقٍ يغوص داخل ركبتي، حيث سُجِنتُ، مثل مانيكان، في قفصي الزجاجيّ.


■ ■ ■


الكابتن رابح

كانت أوّل كرةٍ حصل عليها في طفولته محشوةً بالقطن، وذات وجهٍ ضاحكٍ مرسومٍ عليها، ولم تكن تفارقه حتّى في السرير.

وفي الممرّ الذي يصل غرفته المشتركة مع أخيه الأصغر بغرفة والديهما، كانا ــ هو وأخوه ــ ينقلان كرتون الكابتن رابح من التلفاز إلى ملعبهما، حيث تحوِّلُ كرتُه إطارَي بابَي الغرفتين المفتوحتين إلى مرميَين بقائمَين وعارضةٍ وشباكٍ، وتحوِّلُ الموكيتَ الخشن إلى عشبٍ طريٍّ يجعل الأقدام خضراء.

عندها يسأل كرته عن التسديدة التي عليه اختيارها كي يحرز هدفاً، فتجيبه، دون أن تتوقّف عن الابتسام، وبعد أن تتفحّص وضعيّة حارس المرمى، أنّ عليه أن ينفّذ ضربةً "صاروخيّةً" تتحوّل إلى نمرٍ عند الانطلاق، أو تسديدةً "سرابيّةً" تختفي بين أصابع الحارس، أو "رميةَ أكيلا" التي تحلّق مثل "نسرٍ عربيٍّ" في السماء، وتهبط كي تمزّق الشباك.

ثمّ حان الوقت لكي يطبّق مهاراته في الخارج، عندما سجّله أبوه في النادي القريب كي يتوقّف عن تكسير أشياء البيت.
    
نظرات الآخرين إلى قامته القصيرة لا تشبه إعجاب أخيه. حارس المرمى يقارب حجمه حجم والده، يرتدي قفّازين كالملاكمين، ويحيط مرماه بشِباكٍ حديديّةٍ لا تتمزّق. أرضيّة الملعب أسفلتيّةٌ تعجّ بالحُفَر. الحذاء يضغط على قدميه مبتلعاً إحدى أصابعه. والكرة المنفوخة إلى آخرها بهواءٍ كالذي في أعالي الجبال، تلاشت ملامحها، من طول ما عذّبها الأولاد بضرباتهم، ولم يبقَ منها سوى عبوسٍ صامتٍ.


■ ■ ■


خسارة كأس العالم

خسر زيدان مباراته الأخيرة في كأس العالم وكرة القدم. أُضيفت هزيمةٌ أخرى إلى هزائم العرب. كنتُ في بداية سنوات مراهقتي. لم أبكِ مثل ما بكى أبي حين كان يدرس في الولايات المتّحدة وخسر محمد علي مباراةً في الملاكمة.

في اليوم التالي، ارتديتُ حذائي الأحمر كحذاء زيدان (في البطولة لعب بواحدٍ ذهبيّ اللون)، وأخذتُ أسترجع أحداث المباراة، ركلة الجزاء التي سجّلها بعذوبة، رأسيّته في الوقت الإضافيّ التي كادت أن تدخل المرمى، مهاجمته لاعب إيطاليا بالرأس، والبطاقة الحمراء التي طردتْه بعيداً عن الكأس الذهبيّة.

وفي الطريق إلى البلدة القديمة في القدس، كان المذياع في سيّارة أبي يتحدّث عن تصرّف زيدان، وأنّه كان ردّة فعلٍ على الشتائم العنصريّة التي وجّهها له المدافع الإيطاليّ. وعندما توقّفنا على الإشارة الحمراء عند ملعب الشيخ جرّاح، تذكرتُ تقمّصي مهارات زيدان فيه، وأخذتُ أشاهده يلعب الآن في الملعب الأسفلتيّ قربي، ويهزم وحده منتخب البرازيل الذي يضمّ أقوى اللاعبين.

قطع أحلام يقظتي مرور جنديٍّ على خطّ المشاة متّجهاً إلى مبنى الشرطة الكبير بجانبنا. انفتحتْ نافذة غيبٍ، فشاهدتُ الملعب بعد عشر سنواتٍ، وقد قسّمته بسكّينها بلديّة الاحتلال إلى أقفاصٍ صغيرةٍ مزروعةٍ بالعشب الصناعيّ والكاميرات، سمّت كلّ واحدٍ منها ملعباً، رقّمتْه، وجعلتْ اللعب بحجزٍ مسبّقٍ مع الدفع، ولمدّةٍ محدّدةٍ من الوقت.

مشينا نحو محلّ العائلة في البلدة القديمة التي تعجّ بالمستوطنين وحرّاسهم من الشرطة. كان ابنا عمّي الأكبر سنّاً يحتفلان بفوز إيطاليا. تشاجرتُ معهم بالكلمات. شبّهتُ ردّة فعل زيدان بالحجارة الملقاة على الجنود. اتّهماه بالخيانة واللعب للدولة التي احتلّتْ وطنه طويلاً. تراكمت حولي كلماتهم حجارة جدارٍ فاصلٍ. ضربتُه برأسي وهربت.

ركضتُ في الطرقات تاركاً الأذان يقود جسدي، كأنّي أركض في الهواء قرب أعالي المآذن، كي لا أبصر كلّ هؤلاء الغرباء في مدينتي.

صعدتُ على الدرجات إلى مسجد قبّة الصخرة. خلعتُ حذائي الأحمر ودخلتُ.

وقفتُ محاطاً بالقبّة المزخرفة بجلالٍ ذهبيّ. امتصّتْ غضبي آيةُ الكرسيّ التي لا تكفّ عن الدوران، فبكيتُ، بعد أن اختلطتْ عليّ الأسباب، وغُمِر قلبي بسكينةٍ نادرةٍ.

قضيتُ ساعاتٍ هناك. اعتذرتُ لابن عمّي عندما عدتُ. وأنزلني أبي في المساء أمام ملعب الشيخ جرّاح.

فزتُ بعدّة مبارياتٍ، وأحرزتُ أوّل هدفٍ لي بالرأس. عدتُ إلى البيت مشياً رغم التعب، تنفّستُ هواء القدس ملء رئتيّ، وأصبح لون حذائي ذهبيّاً.


* كاتب وشاعر فلسطيني من مواليد القدس عام 1992

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون