حقوق المؤلّف المهدورة "على الطريقة اللبنانية"

حقوق المؤلّف المهدورة "على الطريقة اللبنانية"

11 مارس 2023
من مكتبة "بازار الكتاب" في بلدة راشانا بلبنان، 2020 (Getty)
+ الخط -

في الأسبوع الأخير، كنتُ وسيطاً بين كاتبَين صديقين، عربي وألباني، حيث وردتْ مقولة "كلّ ناشر كاذب إلى أن يثبت العكس"، والتي تعكس الخبرة أو الخيبة من العلاقة بين المؤلّف ودار النشر في دائرة جغرافية واسعة. وفي الأسبوع الأخير أيضاً، تلقّيتُ رسالة مفاجئة من دار نشر مصرية معروفة، بعد مرور خمس سنوات على نشر كتاب لي في القاهرة، أثارت فيّ الشجون حول العلاقة الملتبسة بين المؤلّف/ المترجِم ودار النشر، من واقع التجربة الشخصية التي تراكمت عبر عدة عقود. ففي تلك السنوات التي نشرتُ فيها عشرات الكتب بعدّة لغات، لم تكن العقود الموقَّعة دائماً تحمي الحقوق، بل كانت أحياناً مجرّد حبر على ورق.

في هذا المجال، كان هناك فرقٌ بالطبع بين الكتب المؤلَّفة أو المترجَمة، وبين المؤسّسات العلمية والثقافية ودُور النشر الخاصّة، والذي كان يعكس طبيعة المرحلة التي تمرّ بها كلّ منطقة. فقد تراجعت قيمة الكتاب المؤلَّف، الذي قد يُمضي فيه صاحبه عدّة سنين لإنجازه ولا ينال مقابل ذلك ما يستحقّه، لصالح الكتاب المترجَم الذي يُنجَز في وقت أقصر وينال عليه صاحبه مكافأة مضمونة حسب الاتفاق أو العقد. ولكنْ حتى الاتفاق أو العقد يعكس الثقافة الحقوقية للمنطقة وإمكانية تحصيل الحقوق بعد أن شاعت "الطريقة اللبنانية" مع ازدهار بيروت كمركز للنشر في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.

وفي الحقيقة، لم تكن "الطريقة اللبنانية"، التي تعتمد نسبة 10 إلى 12% من سعر الكتاب المباع، اختراعاً لبنانياً، بل هو تقليد شائع في أوروبا، مع الفارق الكبير الذي تَكَرَّس مع مرور الوقت. فقد كان الأمر يقوم على "تفاهم" في البداية، ثم أصبح عقداً ملزِماً بعد التزام الدول العربية تضمين قوانينها بنود الاتفاقية الدولية لاحترام الملكية الفكرية في نهاية القرن العشرين، دون أن يعني هذا بالضرورة تغيّراً في الجوهر.

تعكس عقود النشر العربية الثقافةَ الحقوقية للمنطقة

ففي حين أنّ العقد مع دُور النشر العربية "على الطريقة اللبنانية" لا يتجاوز صفحتين، نجد أنه يتخطّى ذلك ويصل مع بعض دور النشر المعروفة إلى عشر صفحات وأكثر. وقد أخبرني صديقي أسعد دوراكوفييش أنّه، عندما وقّع عقداً مع الدار البريطانية المعروفة "روتليدج" لنشر كتابه "عِلم الشرق"، فوجئ، بعد تجربة طويلة مع دور النشر في يوغسلافيا السابقة والبوسنة الحالية، بأنّ العقد الجديد تألّف من 11 صفحة تشمل تفاصيل التفاصيل التي تضمن حقوقه وحتى حقوق ورثته، ومن ذلك إطلاعه الدقيق على الهيئة النهائية للكتاب قبل طباعته، وتتبّع حركته من المطبعة إلى حين نفاده من المكتبات، وحصوله على تقرير كلّ ستّة شهور على نسبته من المبيعات تُرسَل على حسابه المصرفي.

أمّا مع دور النشر العربية التي تعتمد "الطريقة اللبنانية"، فلديّ حوالي عشرين عقداً لا تتضمّن في الأصل ذِكر الحساب المصرفيّ للمؤلّف أو المترجِم، ولذلك تُترك للخيال كيفية تحصيل المستحقّات التي يقدّرها الناشر بطريقة ما، لأنّ العدد الحقيقي من النسخ المطبوعة والمباعة يبقى "سرّاً" لا يمكن الوصول إليه. ومع حرّية الحركة بين بلدان المنطقة حتى اندلاع "الربيع العربي"، كان الوصول إلى دمشق وعمّان وبيروت والقاهرة متاحاً بحُكم النشاطات والندوات، التي كانت تتضمّن زيارة دُور النشر واستلام ما هو موجود على ذمّة الناشر.


عندما كانت الكلمة أهمّ من العقد

خلال حوالي خمسين سنة، كانت الصورة المثالية في التعاون مع المؤسّسات الثقافية التي عملتْ فرقاً في النشر والتوزيع واحترام حقوق المؤلّف أو المترجم، من سلسة "عالم المعرفة" الكويتية وصولاً إلى سلسلة "ترجمان" التي يقوم عليها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، في حين كان كثيرٌ من الخيبات مع دُور النشر الخاصّة، بغضّ النظر عن كون الناشر يمينياً أو يسارياً، مسلماً ملتزماً أو قومياً علمانياً. بعض هذه الخيبات كانت مريرة لكونها مرتبطة بعلاقة شخصية قائمة على الصورة المسبقة أو الشائعة للناشر. ولكونها كذلك، فقد حرصتُ على استعراض اثنتين منها في حياة أصحابها، التي كانت مفاجئة لِمَن يعرف الطرفين، عندما نشرتُ عنها ما حصل.

أكتفي في هذا السياق بمثال ثالث، وهو يتعلّق بالصديق الراحل زياد منى، مدير "دار قدمس" التي كان لها دورها في فترةٍ ما في نشر دراسات جادّة وترجمات مختارة برؤية واعية لظروف المنطقة. فقد فُوجئتُ مرّةً حين عرض علي منى ترجمة كتاب لباحثة فرنسية معروفة (ناتالي كلير) عن تجربة تشكُّل حركة قومية أوروبية تجْمع المسلمين والمسيحيّين معاً لتشكيل أوّل دولة علمانية ذات غالبية مسلمة في أوروبا (ألبانيا في عامَيْ 1913 و1914). ونظراً لكوني أعرف أنّه ما اشتغل مترجمٌ مع منى وغادره راضياً، فقد حرصتُ على الصداقة التي بيننا، وأصررتُ في الحديث بالهاتف على أن يكون العقد موقّعاً قبل البدء بالترجمة.

منظومة ثقافية تزدري المواثيق وتتشاطر على المؤلِّف

ولكنّ منى، باسم الصداقة، قال باستغراب: "كلمتي أهمّ من أيّ عقد"! ولأجل ذلك اتفقنا على البدء بالترجمة إلى أن يصل العقد، ولكنّ العقد لم يصل حتى حين حلّ أجلُ دفع الثلث الأوّل من مستحقات الترجمة (التي كان من المفترض أن تكون مموَّلة من جهة فرنسية)، ولكنْ بدلَ ذلك، اتّصل بي هاتفياً ليُبلغني تخلّي "قدمس" عن نشر الكتاب بعد أن بلغتُ ربعه في الترجمة. كانت تلك خيبةً كبيرة، وأسفتُ لأنّ الكتاب لم يصدر بينما كان مفيداً للتجربة القومية في المشرق العربي عندما كان التفاؤل في مكانه وزمانه!

في حالة أُخرى، كان هناك اتّفاق مع دار نشر لبنانية، صاعدة، على ترجمة مذكّرات ملك ألبانيا أحمد زوغو خلال إقامته في مصر (1946 - 1955)، التي كانت لها قيمتها بالنسبة إلى حرب 1948، نظراً للمناقشات التي كانت تجري في قصر الملك مع زعماء عرب. وقد طلبت منّي الدار تنازلاً عن حقوق المُلكية الفكرية، فاتّصلتُ بحفيد الملك في تيرانا لأمدح له الدار التي "تستحقّ أن تنشر الترجمة العربية"، فوافق على إرسال رسالة بهذا الخصوص إلى الدار. 

ولكن عندما اكتمل كلّ شي، فاجأني المدير التنفيذي، المرحوم عماد عبد الحميد، بأنّ صاحب الدار قرّر معاملة الكتاب ككتاب مؤلَّف، أي "على الطريقة اللبنانية"، وليس ككتاب مترجَم! في هذه الحالة، كان يُفترض بي أن أكتب مرّة أُخرى إلى الأمير لأسأله أن يكتب تنازلاً لدار نشر أُخرى، ولكنّ ذلك كان محرِجاً، لأنّني امتدحتُ الدار في رسالتي الأُولى، ولذلك فضّلتُ السكوت. وهكذا، صدر الكتاب "على الطريقة اللبنانية" في عام 2015، ولم يصلني شيءٌ من حقوق التأليف أو الترجمة حتى الآن، مع وجود عقد "حسب الأصول" لا يتضمّن الحساب المصرفي أو طريقة إرسال النسبة المستحقّة من مبيع الكتاب.

مع كلّ هذه الحالات المذكورة - وهذا غيضٌ من فيض - فوجئتُ بوصول رسالة ودّية من المدير المالي لـ"دار الشروق" في القاهرة، والتي نشرَت في 2017 كتابي "الجالية الخفيّة: فصول من تاريخ الألبان في مصر"، يخبرني فيها عن مستحقّاتي عن الكتاب خلال السنوات السابقة "على الطريقة" اللبنانية"، ولكن مع التزام دقيق بالعقد الموقّع. لكنّ المشكلة كانت في الجنيه المصري الذي فقد تلك القيمة التي كانت له في تلك السنة. غير أنّ هذه المسألة ليست مسؤولية الدار على كلّ حال. لقد قضيتُ لأجل هذا الكتاب سنواتٍ في البحث ضمن الأرشيف والمخطوطات والمصادر ما بين تيرانا والقاهرة، وحصلتُ في النهاية على مبلغ قد يغطّي إقامتي ليومين في القاهرة.

للأسف، كانت "الطريقة اللبنانية" ظالمة للبنان الذي نُسبتْ إليه، لأنّها لا تقتصر على لبنان فحسب، بل على دائرة جغرافية واسعة، وبالتحديد على منظومة ثقافية تزدري الحقوق وتتشاطر على المؤلّف والمترجِم كلّما وسعها ذلك. 


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون