حبرُ الإهداء استحالَ يداً مودّعة

حبرُ الإهداء استحالَ يداً مودّعة

30 اغسطس 2021
لوحة لـ بول غيراغوسيان
+ الخط -

دموعُ الميت  

اليومَ كدتُ أبكي
ميّتاً لا أعرفه.
دموعي مثلي
لا تعرفه.
تعرِف قلبيَ
الصخريّ
وتشتاق خدَّي.
ترْقُبُ مأتماً
يهزّني الصوت فيه.
صوت ندّابة
تهدهد بأسمائهم 
الموتى 
حين تنساها.
تربّت على النعوش
بالغناء،
يغفو بين شقوقها،
الغناءُ الذي يعرف
جميعَ الموتى
ولا يعرفني.

اليوم كدتُ أبكي
ميّتَ امرأةٍ
لا أعرفها
أو تعرفني.

بكيتُ البكاء
ولم أبكِ.


◼◼◼


يوسف حبشي الأشقر

كنتُ في التاسعة عشرة.
جالستُه حول البِركة.
دخنةُ غليونه منحتْ
كلماتهِ
غموضَ مقدّسٍ مَرِح.

كنتُ متحمّساً ضدّ الرب
ومألوماً لذبحه:
- ابني الذي لم يؤمن
لا يتألّم مثلَك.

على الدرج الطويل،
مغادراً،
حمّلني "الظلّ والصدى".
عشرةُ أعوامٍ مرّتْ
حبرُ الإهداء
استحال
يدَه المودّعة.

زهاء عشرة أعوام
أخرى
ها إني أقصد البيت،
"بيت شباب".
من دونه جلسنا في
الطبقة العليا.
"هنا كتب والدي
"المظلّة والملِك وهاجس
الموت"،
متنقّلاً بين الغرف
العارية
تحت مظلّة كحليّة".

في مرضه
لم يشأ أن يُربطَ
إلى آلة غسل
الأعضاء.

يوسفُ الطفلُ
مُذ قُطِعَ حَبْلُ
خلاصِهَ
وحده الجثمانُ
خلاص.


◼◼◼


إلى عبده لبكي

حين جلسنا إلى البحيرة
ورحنا نرمي فُتات الخبز
تدافعت سمكات الترويت
لاختطافه بحركتها الرشيقة.
بالخبز نفسه على المائدة
كنّا نتناول أخواتها السمكات 
مشويةً بهدوء الجمر المشهود.

في اليوم التالي
والمطعم نفسه
كنا نأكل سمك الترويت؛
السمك نفسه ربما
الذي مرحنا وإياه أمس
في البحيرة الخضراء.
وكنا من الخبز
نتناول ثلاثة أصناف:
ما حملَه النادل الى المائدة،
ما رميناه البارحة لاهين،
وما كان عجيناً في الصنّارة
ونضج موتاً
ها نحن نمضغه
متنبهين لحسَكه -
مسامير تابوته الابيض،

السمك الذي قاسمناه خبزنا
قاسمنا ملحَ أنفاسه
حين بأسناننا عانقناه؛
بيننا اذاً عهد الخبز والملح
والكثيرُ من اللعاب.


◼◼◼


ثقبُ الفم 

ضرسٌ يُسابق
الفم نحو 
العدم.
وحانوتيّ بثوب طبيب
وصلاةِ سكّين.
أيّها الثقب المتروك،
أيها القبر في فمي،
سأظلّ أملأك شراباً،
شرابَ الآلهة القديمة؛
نبيذاً وحبّاً،
حبّاً ونبيذاً،
حتى إذا ما متُّ، 
يومَ أموت،
دفنتُ القبر
معي.


◼◼◼


الأحد

أمِنْ أحدٍ
سواه
في بيروت؟
لا ظِلّ.
شموسٌ
ومصنعُ فراغ.
آحادٌ يتباينون.
ينامون على
أسرّة
جثامين
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
إلخ، إلخ.

في أيّ بحرٍ
أو كأسِ عَرَقٍ
تذوبُ بيروت
يومَ الأحد.


◼◼◼


استعارة 

أودّ لو أستعيرُ
نباحَ كلب
فأُطلق في عراء 
الليل وَحشتي.
لكن لا كلاب هنا
عرفتْ مقدار
غربتي
ما من حنجرة 
ترضى
أن تكون آخر
الصرخات.
حتّى هذه القصيدة
تقول لي (ولك):
دعني 
لن أعويَ
(قد يخالونك
وحشاً مفترساً)
سأتقاسم الفراش
معك
ألحس وجهك
وأطرد الناموس عن
جبينك.
لكن لو شخرتَ
شخيراً مرّاً
سأشعلُ أمام مريمَ
فتيلاً من شموع 
طفولتك
علّك تحِلّ عنّي
وأنام.


◼◼◼


انتظار 

الانتظار قِمارٌ...
مَن تنتظر هو 
النرد (أتى أو لا،
سيّان).
أنت تلاعب 
الشوق.
أبداً تخسران 
أمام مجهول.

الانتظار حكايةٌ
ترويها لشبح.
حتى أنت 
لا تسمعها.

حكايةُ أمكنة 
عن زمن لا 
يَصِل، 
لا لأنه ضلَّ
الطريق.
بل لأنه يعرفها
عن ظهر قلب.

هل تُطلّ 
من النافذة
امرأةٌ؟
لا أنتظر
إلا لأنها لن
تأتي.

لا تنتظر.
لا تنسَ.
تذكّر أنك
طالما انتظرت.
ولم تَعد مِن
انتظار.


* شاعر وإعلامي من لبنان

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون