جان كريستوف بايّي: إعادةُ شتْل القصيدة في تربة العالم

جان كريستوف بايّي: إعادةُ شتْل القصيدة في تربة العالم

02 فبراير 2021
جان كريستوف بايّي إثر فوزه بـ"جائزة ديسمبر" عام 2011 (Getty)
+ الخط -

جان كريستوف بايّي من الكتّاب الذين لا تتركنا كثرة منشوراتهم في موضع من اللامبالاة أو الاستفهام. على العكس. حضوره الخصب على رفوف المكتبات سببٌ لفرح كثير من القرّاء المحتملين، أو هذا على الأقل ما نتوقّعه. وما يُحزِن فعلاً أن كاتباً وشاعراً مثله، وضع أكثر من سبعين مؤلَّفاً فريداً، بين محاولةٍ ومجموعة شعريّة ونقدٍ جماليّ ومسرح، لا حضور له يُذكَر في اللغة العربية. حزنٌ يتضاعف عندما نفكّر بأهمية تنظيراته حول الشعر على الأقل، والتي تبدو المساحة التي تغطّيها اللغةُ العربية في حاجة لمثيلاتها. حاجةٌ لا تُنتظَر من باب الاطّلاع فحسب، بل من باب المسائلة وفتح النقاش، أو إعادة فتحه. ذلك أن النقاش في الشعر وحوله، في العربية، يبدو متوقّفاً عند مرحلة ما من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بحيث لا نزال حتى اليوم نتكلّم بمفرداته التي باتت على درجة عالية من التسطّح والسطحية - مثل قطعة خفيفة من النقود - من فرط ما طُرقت واستُهلكت.

كتاباتُ بايّي (1949)، في المقابل، واحدةٌ بين تلك التي تُسائل موقع الشعر في عالمِنا الذي نعيشه، وبلغتِه. وهي من الكتابات التي لا تتعالى، بلا أدنى شك، على قراءة اللغات والعوالم السابقة التي قاربت الشعر، لكنها تتحاور معها في مسعى إلى التقاط فرادة لحظاتنا ويومنا هذا شعرياً، كما حاولت تلك اللغات التقاط فرادة زمانِها. كتاباتٌ راهِنة، بالمعنى المليء لهذه الصفة: أي أنها تأخذ بعين الاعتبار كلّ ما أمكنها اعتباره من العناصر والمصادر والكائنات التي تفيض بها الحياة والخبرةُ الحيّة، اليوم، على سطح كوكبنا.

في حديثنا عن حياةٍ بالمطلق، وعن خبرةٍ حيّة، نكون، بمعنىً ما، في صُلب نظرة بايّي إلى الشعر وإلى العالم بشكل عام. عالمٌ لا ينفصل فيه البشريّ عن الحيوانيّ أو النباتيّ، ولا حتى عن الأشياء، كما لا يُحال كلّ شيء فيه إلى عبقرية الذات وابتكارها، كما ظنّ المثاليون، فلاسفةً كانوا أم شعراء. يمكن تلخيص أعمال بايّي النقدية والفكرية بالقول - وهو قول ناقِصٌ ومنتقِصٌ بالضرورة - إنها محاولات متتالية لإعادة الشعر والكتابة إلى مجراهِما الحيويّ، الحيّ، ولقَلْبِ الفكرة المثالية القائلة بأننا، عبر اللغة، نمنح الأشياء معناها. عمليّة القلْب هذه تخلص إلى أننا، بدلاً من ذلك، نتلقّف المعنى من الأشياء والكائنات التي تملأ العالم؛ إننا نلتقط المعنى بإصغائنا إليه، هو الذي يبدو أشبه بحفيف أو جلَبةٍ موجودة في الأشياء نفسِها حتى قبلَ وجودنا كأفراد (وربّما كنوع حيّ؟).

بدلاً من "لغز" أصل اللغة، يطرح سؤال مجيئنا إليها

هذه الأطروحة، لا يمكن القول إنها جديدةٌ فكرياً (لنتذكّر الفلسفات الواقعية)، لكنها جديدةٌ في سياق التفكير بالشعر، هذا التفكير الذي لطالما جرى فصلُه، أكاديمياً، عن التفكير بالعالم، وكأننا إزاء أمرين مختلفين أو حتى متضادّين. ربّما بات مفهوماً أن كلّ مسعى جان كريستوف بايّي، منذ التسعينيات على الأقل (أصدر أوّل كتبه عام 1971)، ينصبّ في محاولة تجاوز هذا الفصل، عبر إعادة ربط الشعر بالعالم، وإعادة شتْلهِ في الأرض الخصبة التي جاء منها. كتاب بايّي الأخير، "وِلادة الجُملة" (منشورات نو)، يمثّل خطوةً جديدة في هذا الاتجاه. وكما هي العادة لدى الكاتب الفرنسي، يضمّ كل كتاب جديد، مهما قلَّ عددُ صفحاته، خلاصة من كتبه السابقة التي تحضر فيه رغم غيابها. يشبه الأمرُ استعارة النبتة التي يوظّفها هيغل في مقدمة "فينومينولوجيا الروح"، حيث لا يمّحي زرُّ الزهرة بتفتّح أوراقها فحسب، بل يبقى حاضراً فيها، كما لا تأتي الثمرة لتزيل الزهرةَ التي كانتها فحسب، بل لتُكمِلَها بمعنىً ما.

للوهلة الأولى، يبدو الكتاب جمعاً لمقالين لا نرى الرابط بينهما: أوّلٌ عن "ولادة الجملة"، يعيد طرح مسألة أصل اللغة في صياغة ومقاربة جديدتين، وثانٍ حول "إعادة بدء القصيدة"، أو "استئناف القصيدة"، يناقش معنى الشعر انطلاقاً من قراءة متوازية لقصيدة "باترسون" (1946)، المطوّلة، لوليام كارلوس ويليامز، ولفيلم جيم جارموش الذي يحمل العنوان نفسه (2016)، والذي يشكلّ تحيّة واقتباساً ومحاورةً لعمل ويليامز. لكنّ المشترك بين النصّين سرعان ما يظهر لقارئهما، بحيث يشكّل النص الثاني، حول القصيدة، برهاناً أو مثالاً عملياً عن الأطروحة التي يقدّمها النصّ الأول، وهو، بهذا المعنى، استكمالٌ له.

الصورة
بايي

يعرف بايّي جيداً، وهو يطرح مسألة أصل اللغة، أنها لم تكن مسألة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (روسّو، فيلهلم فون هومبولت وهيردر) فحسب، بل سؤالاً حتى لدى سقراط وأفلاطون (محاورة "كراتيلوس" على سبيل المثال). وهو، بالتالي، لا ينطلق من فراغ بحثيّ، بل من خلاصةٍ، هو مقتنعٌ بها، حول استحالة "اقتفاء أثر" الخطوات الأولى للّغة "بكلّ يقين"، وذلك بسبب "البون الشاسع الذي يفصلنا عن أصل اللغات"، كما يقول هومبولت. بدلاً من "لغز" وجود اللغة وأصلِها، يصبح السؤالُ، إذاً، سؤالَ مجيء اللغة إلينا، أو، بالأحرى، مجيئنا إليها. ومن هنا يأتي التفاتُه إلى ولادة الجملة، أو الإجمال (قول أو كتابة جُمَل، أو محاولة ذلك)، الذي يعطي صورة مثالية عن اللغة وعلاقتنا بها. مثل كل ولادة، تولد الجُمل في عالم مشبعٍ بالمعنى، يسبقها ويفتح لها طريقها. أيُّ علاقةٍ باللّغة وأيّ استخدام (أو تعلّم) لها مشروطان بهذا الحضور السابق للمعنى. إجمالُنا أو محاولتنا تشكيلَ جُمل هو الطريق الذي نشقُّه لأنفسنا كبشر في هذا الوجود، وفِعلُنا هذا يمثّل صدىً أو ردّاً على جلبة المعنى التي تحيط بنا وتملؤنا.

مثل كل ولادة، تولد الجُمل في عالم مشبعٍ بالمعنى

لكن طريقَ الجُمل هذا يتموضع، كما يقول بايّي، على حوافّ هُوّةٍ تعبّر عنها أفضل تعبير تلك الأسئلة التي نوجّهها لمَن نحدّثهم: "هل ترى ما أريد قوله؟ هل فهمت عليّ؟". أسئلة تعطي صورة عن المسافة التي تفصلنا في كثير من الأحيان عمّا نريد التعبير عنه. لا يحيل بايّي نقص المعنى هذا إلى تلاشيه خلال عملية انتقاله من العالم وأشيائه إلينا، وكأننا التقطناه كاملاً لكننا أضعنا جزءاً منه على الطريق بسبب طبيعتنا البشرية، مثلاً. نظرةٌ كهذه تُعيدنا إلى النظريات القديمة حول الكلمات، واللغة بشكل عام، بوصفها نسْخاً للمعنى الموجود في الأشياء. قناعة بايّي، بدلاً من ذلك، هي أننا نحاول "إيقاظ شيء من المعنى" الموجود في العالم، نحاول تأويله لا نسخه، لكنّ تأويلَنا هذا، رغم رغبته في العودة إلى المعنى الأول، الأصلي، يبقى قراءة ممكنةً وغير كاملة من بين قراءات لانهائية للشيء والمعنى نفسه.

هنا يلتقي تنظير الكاتب الفرنسي حول اللغة بقراءته لمعنى الشعر. فالقصيدة تولد كمعنىً داخل معنى يسبقها، وهو ما يُعطي مطلع قصيدة "باترسون" مثالاً عنه. إذ يُفتَتَح النصّ بنقطتين متعامدتين تحيلان إلى ما قبل القصيدة بقدر ما تحيلان إليها، وكأن النصّ نفسَه جُملةٌ يقولها العالم، عالمُ الأشياء كانَ أم عالم الشخصية الأساسية في القصيدة (وفي الفيلم): باترسون. كما أن القصيدة تبدو لبايّي أكثر الأشكال التعبيرية اقتراباً من "طبيعة" اللغة، إن صح التعبير، أو من طبيعة الجملة. ذلك أن الشعر إقامةٌ دائمة في تلك المسافة بين العالم وجلبة المعنى التي تغلّفه وتغلّف أشياءه وتفاصيله، وبين صداه الإنساني اللغوي، أي محاولة قوله التي تتّسم، قبل كل شيء، بالنقص. 

الشعر، إذاً، إصغاءٌ منتبهٌ لضجيج المعنى المحيط بالأشياء والكائنات، ومحاولة استنطاق وتأويل مستمرّة لها. إنه محكوم بتصحيح نفسه في كلّ مرة، بسبب عدم كماله - وهو ما يحيل إليه عنوان المقال الثاني: "إعادة بدء القصيدة"، الذي يشير إلى لانهائيّة هذه المحاولة. محاولةٌ يكمُن جمالُها، ربما، في هذا النقص نفسِه، في هذا الرواح المتواصل بين معنىً وآخر، بين "لغة صامتة"، هي لغة العالم في تعبير بايّي، ولغة الشاعر. هكذا، تصبح القصيدة أشبه بسرير نهر يستقبل مجرى الحياة نفسها، ويصبح مجهودُ الشاعر ضيافةً أكثر منه ابتكاراً أو اختراعاً. فهو يستضيف، في قصيدته، ما يناديه في الأشياء وما يدفعه إلى اجتراح القول.

المساهمون