انتقائية الانتفاض للعمران بمصر: مكيال للساحل الشمالي ومكيال للورّاق

انتقائية الانتفاض للعمران بمصر: مكيال للساحل الشمالي ومكيال آخر لجزيرة الورّاق

30 سبتمبر 2022
إعلانات عن سكن بديل لسكّان الورّاق قبل الشروع بالهدم، 31 آب/ أغسطس 2022 (Getty)
+ الخط -

يقول الروائي واسيني الأعرج في روايته "طوق الياسمين": "شيءٌ ما في المدن العربية يجعلها حزينةً دوماً حتّى وهي في أقصى حالات الفرح". ويبدو أنّ أحد التفسيرات المقبولة لهذه الحالة هو غياب العدالة في المدن العربية. ليستِ العدالة بمفهومها القانوني والحقوقي فقط، ولكن أيضاً بشقّها الخاصّ باستحقاق المُجتمع لأماكنه وفضاءاته ومقوّمات بيئته الطبيعية. عندما نُسقط هذه المقاربة على مشهد العمران في مصر، تُربكنا ظاهرة تناقض المواقف أمام نفس الظواهر، ولعلّ سردية منتجعات الساحل الشمالي، مقابل سردية جزيرة الوراق، تقدّم دليلاً دامغاً على انتقائية الانتفاض.

تقوم "شركة إعمار" الإماراتية بإنشاء مجموعة من المنتجعات ضمن العاصمة الصيفية الجديدة التي تُعرف باسم "العَلمين الجديدة"، وبالتحديد في منطقة مراسي سيدي عبد الرحمن، وقد بيعت بعض فيلات هذه المنتجعات بما يتجاوز 100 مليون جنيه مصري. فجأة وفي سياق مصري يتّسم بحالة من الصمت والقبول والاستسلام، ارتفعت الأصوات محتجّة متمرّدة تتساءل كيف تلوّثون بيئتنا وتدمّرون سواحلنا؟ للوهلة الأولى يعتقد المراقب أن هذه انتفاضة جَمعية تُعنى بالحفاظ على البيئة، أو حراك لناشطين من جماعات الخُضر، ولكنّ الشرارة الأولى لموجة الاعتراض أطلقها علاء، ابن الرئيس المعزول حسني مبارك عندما تساءل مستنكراً عن تآكُل الشواطئ في المنتجع الراقي الذي يقضي فيه عطلته الصيفية. نجوم الإعلام الذين يلقّنون الشعب المصري دروساً في أهمّية الصمت، اعترضوا وبدؤوا في تقديم التحقيقات وعقْد اللقاءات التي تتحدّث عن خطورة نحر الشواطئ في أجمل بقاع مصر. 

تبيّن للجميع أنّ "شركة إعمار" المالكة لقرية مراسي أقامت مارينا عملاقة لليُخوت، تسبّبت في منع الحركة الطبيعية لتيّارات المياه والأمواج وأنساق الترسّبات الرملية على شواطئ المنطقة. تصاعدت موجاتُ الاعتراض إلى درجة صرّح معها إعلاميّون بضرورة وقف "الأعمال غير القانونية" والتحقيق في ما يحدُث في شواطئ الصَّفوة المُهدَّدة. امتدّت الحركة الاحتجاجية لتشملَ مجموعة من ملّاك الفيلات في المُنتجَع وأصدقائهم. وبادر رئيس جهاز شؤون البيئة الأسبق، صلاح حافظ، قائلاً: إن التأثيرات البيئية للمارينا تُثبت مخالفات جسيمة، وإنّ تصميمات المارينا المنفَّذة ليس لها علاقة بما تمّ الموافقة عليه مُطالِباً بضرورة وقف المشروع. بينما قال السفير، مساعد وزير الخارجية الأسبق محمد مرسي، مالك فيلا في إحدى المنتجعات المتضرّرة: إن هناك خطّاً رفيعاً بين تشجيع الاستثمار وبين الحِفاظ على مُقدّرات الوطن واحترام قوانينه. أمّا وزير الصناعة السابق منير فخري عبد النور، فغرّد على تويتر مناشداً الحكومة بأن تخلق بيئةً للاستثمار بشرط الدفاع عن كرامة الوطن وعقاب المستثمرين غير الملتزمين بالقانون. وبدوره، صرّح المُساعد السابق لوزير البيئة، حسام محرّم، بأنّ تآكل الساحل هو نتيجة مباشرة للمشروعات التي يتم تنفيذُها والتي ستكون سبباً في خسائر فادحة، ويجب التدخُّل الفوري للحكومة لحماية السواحل.

شرارة الاعتراض أطلقها علاء ابن الرئيس المعزول مبارك

هذه الموجة غير المسبوقة من الاعتراض المجتمعي والإعلامي، أجبرت وزارة البيئة المصرية على إصدار تصريح بأنّه يجري إعداد تقرير للتعرُّف على أسباب المشكلة ووضع الحلول لها. ثم أصدر وزير الرّي الأسبق حسام مغازي تصريحاً بأنّ القوّات البحرية المصرية تدير أزمة نحر شواطئ خليج سيدي عبد الرحمن، وأنّها تتعاون مع مكتب استشاري عالمي لوضع حلّ للمُشكلة.

نشهد هنا مفارقتين دالّتين، الأولى هي صمتُ الشركة المالكة بينما تستمرُّ أعمالُها ومبيعاتها ورفضُها التامّ للتعليق على اتّهامات الأضرار بساحل مصر الشمالي. والثانية هي أنّ الواقعة تُضاف إلى رصيد من الإشكاليات التي تجعل استضافة مصر لـ"مؤتمر البيئة والتغيُّر المناخي" يثير التساؤل. ثم ازداد المشهدُ إثارةً عندما أعلنت "شركة إعمار" الإماراتية فجأةً عن تبرُّعها بمبلغ 200 مليون جنيه مصري إلى "صندوق تحيا مصر"، فسادت حالة من الصمت المقدّس على الجميع.

الصورة
سيّدة مصرية تجلس على أنقاض منزلها الذي جرى هدمه ضمن مشروع الاستثمار في جزيرة الورّاق، تمّوز/ يوليو 2017
سيّدة مصرية تجلس على أنقاض منزلها الذي هدمته السلطات في جزيرة الورّاق، تمّوز/ يوليو 2017 (Getty)

في سياق آخر، وخلال ليلة واحدة تقريباً، تحوّلت جزيرة الورّاق وسط نهر النيل من واحة خصبة تنتجُ المحاصيل، ويستقرُّ بها مجتمع محلّي متعاون، إلى موقع معركة شرسة بين السكّان والسلُطات بشأن خُطط إعادة تشكيل الجزيرة بأكملها. الجزيرة هي موطنٌ لما يقرُب من تسعين ألف شخص وترتبط بالعاصمة القاهرة عن طريق العبّارات، التي تنقل السكّان إلى المناطق المجاورة مثل شبرا الخيمة على ضفاف النيل. عقب إعلان "مخطّط القاهرة 2050" في نيسان/ أبريل 2009، أُعلنت أيضاً رؤية "تطوير الواجهة البحرية لنهر النيل". وأَوصت هذه الخطّة بضرورة إخلاء جُزر النيل القريبة، وخاصّة الورّاق والذهب لتُخَطَّط الجزيرتان كمركزٍ ماليٍّ، ومركز لمقرّ الشركات المتعدّدة الدولية على التوالي.

وفي عام 2010 قدّمت الشركة المعمارية المصرية "كيوب للاستشارات" اقتراحاً (مخطّطاً مفاهيمياً) إلى "الهيئة العامة للتخطيط العمراني" لتحويل جزيرة الورّاق إلى "جزيرة حورس" التي تكتمل بأبراج لامعة وشوارع واسعة ومرسَى للقوارب الفاخرة واليُخوت. واعتُبر المشروع جزءاً من "رؤية القاهرة 2050"، التي كانت خطّة تحوُّل شاملة من قِبل نظام حسني مبارك، وهو المشروع الذي انتُقد لإجباره الملايين من أفقر قطاعات سكّان المدينة ليتمّ ترحيلُهم من أراضيهم ومساكنهم وتحويلهم إلى سكّان بلا مأوى أو معاد توطينهم في هوامش المدينة الصحراوية.

تبني الحكومة مُدنها حول رأس المال بدلاً من المواطنين

وحين تم إيقاف "مخطّط القاهرة 2050" مع سقوط نظام مبارك في 2011، فإنّ الخُطط التي ترمي إلى إعادة التشكيل الجذري لوسط القاهرة ما تزال تشكّل الأولوية الحقيقية للسلطات المصرية. قُدّم في آذار/ مارس 2013 اقتراحٌ ثانٍ من شركة استشارية سنغافورية بدعم إماراتي لتطوير الجزيرة، ولكنّه لم يتمّ تفعيلُه أو تبنّي تصوُّراته. كان المخطّط السنغافوري يرتكز على رؤية نيوليبرالية لجزيرة الورّاق وهي تتباهى بناطحة سحَاب زجاجية، وهرم زجاجي لامع، ومارينا وممرّات ترفيهية وتجارية على ضفاف النهر.

المثير للتأمُّل هنا، وخاصة حين نقارن مع حالة الساحل الشمالي، هو النظر إلى التفسيرات الرسمية لمهاجمة وطرد السكان المحليّين، والتي تثير الكثير من السخرية، كما هو واضح من بيانات السلطات المصرية التي تتراوح بين الادعاءات بعدمِ وجود مَرافق صحّية ملائمة للسكّان ــ ولذا يجب إخلاؤهم لأنّهم "يلوّثون" البيئة ــ وبين اقتراحات مفادُها أنّ الجزيرة ككلٍّ هي في الواقع محميّة طبيعية.

الصورة
من تشييع أحد ضحايا المواجهات مع الأمن المصري على خلفية عمليات الهدم في الورّاق، تموز/ يوليو 2017 (Getty)
من تشييع أحد ضحايا المواجهات مع الأمن المصري على خلفية عمليات الهدم في الورّاق، تموز/ يوليو 2017 (Getty)

ثم فجأة يتضاءل، بل يتلاشى الحرص البيئي، وبعد قرابة شهرين من إلغاء إعلانها كمحميّة طبيعية، قرّر مجلس الوزراء بناء مجتمع عمراني جديد على جزيرة الورّاق. وتنشر الجريدة الرسمية قرار رئيس الوزراء السابق شريف إسماعيل الذي يتضمّن تحويل الجزيرة من محميّة طبيعية إلى منطقة للاستثمار العقاري. بالإضافة إلى ذلك، صدر قرار بتحويل مسؤوليّة الجزيرة إلى سُلطة المجتمعات العمرانية. مثل هذا القرار الذي يوضّح الانتقال من التعامُل مع الجزيرة كمحميّة الزراعة وصيد الأسماك إلى إمكانية الأنشطة العقارية التي تُشرف عليها السُّلطات الحكومية. وبعد ذلك، كرّر رئيس الوزراء السابق، شريف إسماعيل، الاتهام بأنّ السكّان يُقيمون بصورة غير قانونية على أراضٍ مملوكة للدولة. وتوضّح الحالة في الجزيرة كيف تركّز الحكومة المصرية على بناء مُدنها حول احتياجات رأس المال القوي بدلاً من المواطنين. وفي الوقت نفسه، تمّ نشر التصميم العام للجزيرة بأكملها والتأكيد على الهوية الجديدة للجزيرة كمركز للخدمات المالية والترفيهية التي تخطّط لها وتملكها وتصمّمها الشركات الإماراتية.

ويتماهى هذا السرد بأكمله مع بيان السيسي عام 2017، الذي ناقش مستقبل جُزر النيل داخل حدود القاهرة متوعّداً: "الجزر في وسط النيل يجب إخلاؤها". وبدأت قوّات الشرطة في مصادرة أراضٍ بالفعل. وقد أدّت المصادمات المتصاعدة بين المواطنين والشرطة ومقاومة السكان المحليّين إلى إجبار الدولة علي تأخير إجراءات الإجلاء، ولكنها لم تلغ أبداً ولم تنظر في حياة مئات الأُسر المقيمة في الجزيرة. وفي الشهور القليلة الماضية، تعاظمت اعتداءات قوّات الأمن والاعتقالات وإزاحة السكّان، بل وهدم مساكنهم البسيطة وسط حالة صمت كامل من كلّ من انتفضوا عندما هُدّدت شواطئ منتجعاتهم ومنتجعات أصدقائهم على ساحل مصر الشمالي.

مشاريع ترحّل أفقر الطبقات إلى أطراف المدينة الصحراوية

اللافت في تأمّل المشهدَين هو الوجودُ الإماراتي في كليهما، وتعاظُم دور الإمارات وشركاتها في السيطرة على مناطق عمرانية متميّزة وإزاحة مجتمعاتها المحلّية كما يحدث في الورّاق، وكما حدث في ماسبيرو والساحل الشمالي وغيرها. وإذ ركّز النظام المصري حالياً على السيطرة الكاملة على المجالات العقارية في البلاد، فإنّه يقوم بكل الأدوار: الوسيط، والمنظم، والمطوّر والمالك. لذا، فإنّ التغيير في دور الحكومة من مُنظّم ومُشرّع ومقنّن إلى سمسار الأراضي، ومستثمرٍ متعطّش للربح يُلاحَظ بوضوح. وأصبحت "الهيئة الهندسية للقوّات المسلّحة" هي الجهة المسؤولة عن معظم المشروعات الضخمة في الدولة وخاصة العقارية والبُنية التحتية وصولاً إلى ترميم المناطق والمباني الأثرية. 

لكن نرصد ونتوقّف وبوضوح في هذا السياق أمام فكرة انتقائية الانتفاض من قِبل المتخصّصين والمفكّرين والخبراء. فبينما التزموا جميعاً الصَّمت إزاءَ مهازل، بل وجرائم طردِ السكَّان لأنّ الورّاق محميّة طبيعية، قبل إصدار قرارات تحويلها إلى سياق استثماري عقاري نيوليبرالي حصري، نجدهم يقومون بدورٍ لافتٍ من الاعتراض والاحتجاج عندما هُدّدت شواطئ منتجعاتهم المجاورة للمشروع الإماراتي العملاق على ساحل مصر الشمالي. يبدو من الضروري للإعلاميين والمفكّرين والمسؤولين والخبراء، أن يدركوا أن الانتفاضَ من أجل القِيَم والمبادئ لا يمكن أن يكون انتقائياً نابعاً من سياق الحالة، ولكنه انتفاض دائم متّسق لأنه يُدافع عن قضايا ومُقدّرات أُمّة ومصائر شعوب وحقوق أجيال.


* معماري وأكاديمي من مصر

المساهمون