الطالب الأردني والفلسفة: هل أتت لحظة التغيير؟

الطالب الأردني والفلسفة: هل أتت لحظة التغيير؟

28 ديسمبر 2021
صورة ظِلّية لدرّاجين في عمّان (عامر الحديد/ Getty)
+ الخط -

لا تزال التغييرات في سياسات وزارة التربية والتعليم الأرنية ومناهجها في سبعينيات القرن الماضي موضع اعتراض لدى نخبة من المثقّفين الذين اعتبروا أنها أتت تعبيراً عن هيمنة تيّارات الإسلام السياسي على العملية التعليمية، حيث شكّل إلغاء مادة الفلسفة، التي كانت مقرّرة ضمن المنهاج الدراسي، أبرز تلك الاعتراضات.

بعد نحو عقدين، أعادت الوزارة تدريس الفلسفة والمنطق إلى وحدتين في كتاب "الثقافة العامة" ثم في كتاب "التربية الوطنية" اللذين أعادا الجدل إلى الواجهة بسبب تضمّنهما آراءً طاولتها انتقادات واسعة بوصفها معادية للتفكير الفلسفي، بل وساخرة منه في بعض المواضع، كما شُرحت العديد من المفاهيم بطريقة متناقضة ‏ومجافية للموضوعيّة والتحليل المنطقي، ما أفضى إلى التخلّي عن تدريس المادّة نهائياً منذ عام 2016. خمس وأربعون سنة من إلغاء الفلسفة أو تشويه معارفها في المدارس الأردنية، يراها بعضهم مسؤولة عن زيادة التعصّب في المجتمع وتكريس أنماط ثابتة من التفكير لدى الطلبة، تعتمد تلقين المعلومات في جميع التخصّصات ولا تتقبّل النقد والتشكيك والتجريب الذي يلازم العلوم ويكفل تطوّرها.

تستطلع "العربي الجديد" آراء عدد من الأكاديميين والباحثين حول عودة تعليم الفلسفة، بعد أن كلّفت وزارة التربية والتعليم لجاناً لوضع رؤية المنهاج الجديد وفصوله منذ أعوام من دون أن تُعلن تفاصيل عملها وتوقيت البدء بتدريس منهاجها، درءاً لأية تحرّكات معاكسة من شأنها إعاقة هذا المشروع.


اشتباكٌ مع الواقع وأزماته
يصف أستاذ فلسفة العلوم، توفيق شومر، المشكلة الأساسية التي تواجه الطالب الأردني اليوم بأنه لمّ يُدرَب على التفكير الفلسفي والتفكير الناقد، ولذلك فإنه لا يدرك ـ بعد التخرّج ـ موقعه المهني وإمكانية تطويره إلّا بعد سنوات من العمل، بسبب عدم امتلاكه التحليل والقدرة على الربط واستخدام المهارات الفلسفية المختلفة في حياته، ما يؤدي إلى تشتت الشباب وعدم إتقانهم مهامّهم في سوق العمل.

ويؤكّد ضرورة تجاوز المعوّقات التي أحاطت بإعادة تعليم أنماط من الدرس الفلسفي في التسعينيات في كتابين قام بتدريسهما معلّمون غير متخصّصين، حيث ركّز الأوّل على تاريخ الفلسفة، بينما امتلأ الثاني بمغالطات دفعت إلى مزيد من النفور لدى الطالب بدلاً من تقريبه من الفلسفة.

للفلسفة أن تساعد في حل مشكلات الواقع عبر استخدام العقل

كما يوضّح صاحب كتاب "التخريب المنظّم للتعليم" أن تواصلاً مستمرّاً بين أساتذة قسم الفلسفة في "الجامعة الأردنية" ووزارة التربية قاد إلى تقدّم كبير في هذا الخصوص، إذ أقرّ مؤخّراً "المركز الوطني للمناهج" تعديلاً يقضي بتضمين مهارات التفكير الناقد في جميع مناهج "الدراسات الاجتماعية"، بدءاً من الصف الأوّل وحتى نهاية التعليم الأساسي، وأن تُدرّس الفلسفة مادّةً مستقلّة في المرحلة الثانوية.

وينبّه شومر إلى أن الفلسفة لا تتوقّف عند الميتافيزيقيا وأسئلة الوجود والصيرورة والكينونة والواقع، إنّما تمتدّ إلى جميع مناحي الحياة، حيث تمكّن دارسها من التحليل والتركيب والقدرة على قراءة النصّ وتمييز الحقيقة عن الوهم، وكذلك تهتمّ بالمعضلات الفلسفية المختلفة المتعلّقة بالفن والجمال والقضايا السياسية والاجتماعية ومختلف حقول العلم والمعرفة، كما تساهم في بناء شخصية الناشئة وقدراتهم على مواجهة الحياة المعاصرة.

ويرى أن المناهج المنتظر تدريسها يجب أن تحتوي مهارات التفكير الإبداعي والتفكير الناقد والمنطقيّ، ومسائل تمسّ حياة الطلبة من مفاهيم الأخلاق والنظريات السياسية والاجتماعية، وكذلك الاطّلاع على التراث الفلسفي العربي، وما قدّمه العديد من شخصيّاته للفكر الإنساني والفكر العربي الحديث والمعاصر، وإضاءة أهمّ المدارس الفلسفية اليوم كالوضعية والبراغماتية، ومعرفة فنّ التساؤل وكيف تُبنى الحجّة وتُقَدَّم وجهة النظر. ويشدّد شومر على عدم خلق نوع من العداء أو الصدام أو الصراع مع الموروث، بحيث تتبنّى هذه المناهج رؤية عقلانية واعية من منطق إيماني ومنطقي أيضاً، مشيراً إلى أنّه سيكون هنالك تدريب للمعلمين في ضوء مخطّط يتعامل مع المناهج بطريقة تفصيلية ويكفل عدم تكرار الأخطاء السابقة. ويلفت إلى وجود ما يزيد عن سبعمئة شخص حازوا شهادة في الفلسفة من "الجامعة الأردنية" منذ سنة 2006، وسيساهمون في تدريس المادّة، بعد أن كان الاعتماد سابقاً على خرّيجي الجامعات العربية. ويختم بالاستشهاد بدراسات علمية حديثة تشير إلى أن دارسي الفلسفة يتمكّنون من رفع قدرتهم الأدائية والتنفيذية في أيّ من أعمالهم بنسبة تتراوح ما بين 30 و50%، وأنها تهيّئهم لمواجهة الحياة والانفتاح ومعرفة الآخر ومحاكمة ما يحيط بهم من تضليل وتعمية.


توصيات لوضع المنهاج
من جهته، يبيّن أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث والمعاصر، ضرار بني ياسين، أن الدرس الفلسفي الذي تم إدراجه في مناهج وزارة التربية والتعليم منذ خمسينيات القرن العشرين، في كتب مستقلة للمرحلة الثانوية، واستمرّ تدريسه حتى عام 1977، كان يشتمل على تدريس مبادئ ومقدّمات في الفلسفة، ومبادئ في الفلسفة والأخلاق، وموجز لتاريخ الفلسفة، ومقرّرات نصوص (مطالعة) فلسفية، ومنطقية، وكذلك في نظرية المعرفة.

ويوصي بني ياسين بأن يتمّ عرض الأفكار الفلسفية بلغة واضحة وسلسة وغير معقّدة أو غامضة، وتُناسب عقول ووعي الطلبة عند إقرار منهاج للتدريس في الفلسفة للمرحلة الثانوية، مع التركيز على المفاهيم الفلسفية وتوضيحها ليسهّل على الطالب توظيفها في تقديم أَفكاره للآخر.

يجب ألا تكون المناهج نهائية، بل قابلة للتطوير والتعديل

كما يدعو إلى أن تتضمّن المناهج في المرحلة الثانوية مجموعة من المباحث التي تُراعي، من جهة، امتلاك الطالب حصيلة معرفية ثقافية تاريخية حول الفلسفة، وحول طبيعة التفكير الفلسفي وأهميته في حياتنا اليومية، وتعزز القيم الأخلاقية والإنسانية والوجودية من جهة أُخرى؛ ما يتطلّب الاطّلاع على نظرية المعرفة ونظرية القيَم والأسئلة المتعلّقة بهما، والمنطلق وقواعد الفكر السليم، والتفكير والتفكير الناقد، والعلم/ الحقيقة بين المُطلق والنسبي، والرأي والرأي الآخر، والتسامح وقبول الآخر، وحقوق الإنسان، والمواطنة، والوسطية والاعتدال، ومشكلات العلم والبيئة. ويرى أنه يمكن التركيز في المرحلة الأساسية على غرس المفاهيم القيَمية الأخلاقية والإنسانية والعلمية، وتكون مناسبة للقدرات المعرفية والذهنية لطلبة هذه المرحلة، وربْط هذه القيم مع مناهج للعلوم الاجتماعية وكذلك العلوم البحتة. وبخصوص إعداد المعلمين المؤهّلين، ينبّه بني ياسين إلى ضرورة أن يتم ذلك على مراحل من خلال إعداد دورات وورشات متخصّصة لهؤلاء المعلمين، وأن تبادر الجامعات الأردنية إلى فتح أقسام للفلسفة، أو على الأقلّ إقرار مساقات في الفلسفة تكون إلزامية للطلبة ضمن الخطط الجامعية، والتوسّع بالقبول في التخصّصات الفلسفية في الجامعات الحكومية والخاصّة.  


المستقبل وإنتاج المعرفة
أمّا أستاذة الفلسفة المعاصرة، دعاء علي، فتشير إلى أن أهم عائق أمام تدريس الفلسفة يكمن في غياب المعرفة والإدراك بأهمّيتها في المجتمع، حيث تتطلّع معظم العائلات الأردنية إلى امتلاك أبنائها وعياً وتطوراً فكرياً واهتماماً بالقضايا العامة، من دون أن تعلم أن الوصول إلى ذلك يتأتّى بتعليم الفلسفة. وتذكّر بأنّ صانع القرار لا يجرؤ على إعادة الدرس الفلسفي خوفاً من زيادة العبء على الطلبة، ومواجهة المتشكّكين بجدوى الاستفادة منها، والاعتقاد الشائع أن الفلسفة ضدّ الدين، بينما هي أداة تفكير تُستخدم في الاتجاه الذي يُراد منها. من جهة أخرى، توضح دعاء علي أن التركيز على تاريخ أي اختصاص هو سائد في كلّ التخصّصات وكلّ واحدٍ من المناهج الدراسية التي تتجاهل الجانب العملي، حيث يحفظ طلبة المدارس والجامعات معلومات كثيرة لكنّها منفصلة عن حياتهم الواقعية، ما يستدعي ربط جميع العلوم ببُعدها التطبيقي، وهذا لا يعني تغييب تاريخ الفلسفة، بل التركيز على الفلسفة كمنهج للتفكير والمنطق وتطبيقاتهما في الحياة، الأمر الذي يشكّل أكبر تحدٍّ أمام واضعي المنهاج. وتلفت إلى أن الفلسفة تسعى إلى حلّ المشكلات عبر استخدام العقل وإعادة فهم مسائل كثيرة مثل الحرّية، وكلّ عنوان يتمّ معالجته بشكلٍ نقديّ من خلال دراسة أدوات التفكير والمشكلات الفلسفية، مثل التكنولوجيا والسعادة والعمل والعلاقات العاطفية، وكيف يشكّل الطلبة رؤية لمستقبلهم الذي يكاد يجهله معظمهم. وتطرح دعاء علي مثالاً على طالبٍ يدرس تخصّص التسويق في كلية إدارة الأعمال ويحصل على المعلومات فقط، بينما لو استطاع امتلاك منهج تفكير فلسفيّ فإنه سيقدّم رؤية للموقع الذي سيعمل فيه مستقبلاً، وعليه سيُنتج معرفة في حقل اختصاصه وتقديم الجديد في مهنته وتطويرها.

وتختم حديثها بالدعوة إلى الإسراع في إقرار المناهج الفلسفية التي لم تعتمد حتى اللحظة، مؤكّدةً أنه كلما انتشرت الفلسفة والتفلسف فإن ذلك دليل على تطوّر المجتمع ورُقيّه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا المناهج يجب ألا تكون نهائية، بل قابلة للتطوير والتعديل في كلّ سنة دراسية، وأن تُوضَع وتُراجَع وتُدقَّق من قبل متخصّصين في الفلسفة، يكون منهم بالضرورة أكاديميون وباحثون شباب لديهم تصوّرات مختلفة عن الأجيال القديمة ومرتبطة بشكل أوثق مع الواقع ومفرداته، مثل التكنولوجيا والأسئلة الأخلاقية الراهنة.

المساهمون