"التخلّي عن الأدب" على طريقة عبد الفتاح كيليطو

"التخلّي عن الأدب" على طريقة عبد الفتاح كيليطو

26 ابريل 2023
من أمسية حوارية في "بيت الزبير" بعُمان، 2018 (العربي الجديد)
+ الخط -

هل يُمكن أن نبحث عن قَدَم ابن طُفيل (1110 - 1185م) في رواية "روبنسون كروزو" للإنكليزي دانييل ديفو (1660 - 1731)؟ في الحقيقة قد لا نجد أثراً كاملاً، لكنْ مَن قال إنّ مِن الضروري أن يكون هناك أثرٌ فعليٌّ ليحدث التأثير...

قد تكون فكرة البحث عن الآخَر في نصوص الذات، والعكس بالعكس، التي يعبّر عنها هذا التساؤل الذي أورده الناقد والباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو (1945) في كتابه "التخلّي عن الأدب"، الصادر مؤخّراً عن "منشورات المتوسط"، من أكثر ما شاع عن مُجمل طريقة تفكير صاحب "من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا" (2019)، والتي بثّها في اشتغالاته المختلفة. إلّا أنّ ما يُميّز إصدارات كيليطو أيضاً، أنها لا تأتي بجديد "دائماً"؛ بل بجديد مُحتمَل ونِسبي يبني على مقولة أو إطار عام مضمونٍ في أعمال سابقة له.

عند هذا الحدّ يُمكنُ لنا أن ننفذَ إلى مفهوم "التخلّي" الذي تبحثُ فيه مجموعة مقالات الكتاب التسعة عشر، وارتحال كاتبها بين نصوص أدبيَن وثقافتَين عربية وأوروبية.

بحثٌ عن الآخَر في نصوص الذات، والعكس بالعكس

تحضر في الكتاب أسماء مثل لوقيانوس السميساطي، وأبو العلاء المعرّي، وثيربانتس، والجاحظ، وهي ليست جديدة أيضاً، بل إنّ مُتابعاً لكيليطو، يُدرك أوّل ما تُطالُعه هذه الأسماء مدى انغماسه في عوالمها، وإلى أيّ حدٍّ ما زالت تُشكّل عنده منجَماً ثريّاً. لكنْ ما وجه التخلّي في كلّ ما سبق؟ خصوصاً أنّه لو صحّ هذا الأمر فعلياً، لانعدمت المادّة الأدبية التي وصلتنا من هؤلاء، هُنا يذهب صاحب "في جوّ من الندم الفكري" (2020) إلى أنّ يتساءَل أكثر ممّا يُخبر من خلال وقائعه التي يحلّلها، فهاكم أبا زيد السَّروجي، بطل مقامات الحريري، وهو المثال الأكثر تطرُّفاً - برأيي - أو تحقّقاً لمفهوم التخلّي عند كيليطو. فما إن "تاب" عن حِيَلِه حتى تبدّد راويَتُه، أي الحارث بن همّام، "انتهى الأدب، افترق الصديقان، ولن يلتقيا في ما بعد. لن يلتقي بهما القارئ أيضاً. يبتعد الراوي وهو يذرف الدموع". ولكن ماذا عن الحريري نفسه؟ ألم يقضِ عمره يفسّر ويشرح كتابه؟ ألا يندسُّ النفيُ هنا في موضوعه، وهذا ما يُجازف كيليطو بترجمته بـ"النفي الإيجابي" (Prétérition).

أمّا المعرّي فهو أيضاً نموذجٌ قاسٍ للنفي والتخلّي، تستحيل عنده هذه الحالة إلى ضربٍ من العُزلة الاجتماعية بوصفه "رهين المحبسَين"، بل إنّه يستنكر حتى على مَن يأخذُ منه: "وماذا يبتغي الجُلساءُ عندي/ أرادوا منطقي وأردتُ صمتي". لكن هل صمَت حقاً؟ ألم يكن أمام حلٍّ هيّن، يتخلّص فيه تماماً من كُلِّ المُحيطين به، أن يصمت وكفى، لكنّه بالتأكيد لم يرتكب ذلك. ليس هذا فحسب، بل إنّ التخلّي عند صاحب "رسالة الغفران"، يأخذ - كما يستطرد كيليطو - حدّاً يُطوّر فيه أدبَ كاتبه، ويغيّر نظرتَه إلى الشعر من "سقط الزند"، الديوان الذي ألّفه باكراً قبل عُزلته، إلى "اللزوميات" التي ابتعدَ فيها عن أنواع الشعر التقليدية المَبنيّة على "المَين" (الكذب).

الصورة
التخلي عن الأدب - القسم الثقافي

في الكتاب عودات مُكرّرة إلى محور المقارنة الأساسي بين المعرّي ودون كيخوته، فهذا الأخير إذ يُعلنُ توبته (طبعته الخاصّة من التخلّي) لا يُعلنها إلّا وهي مصحوبة بندمٍ مرير، يتمثّل في عجزه عن الشروع في قراءات جديدة، "لقد أخطأ في اختيار قراءاته حين ركّز اهتمامه على كُتُب الفروسية التي جنَت عليه وأذهلته وأوقعته في مواقف وأوضاع شائكة"، وهذا ما فهمه المحيطون به، وأنّ رغبته في التنسّك ليست سوى طموح لقراءة كتُب من نوعٍ جديد.

رغب المعرّي في الصمت، لكنْ هل قدر على ذلك حقّاً؟

يُماهي كيليطو في أجزاء من تحليله الأدبي، بين الأبطال وصانعيهم/ الكتّاب، هل يمكنُ القول إنّ ابن القارح كان بورتريه ذاتياً عن المعرّي، أو حامد بن الأيّلي وجهَاً لثيربانتس وقناعاً له، فهذا الأخير ظلّ مسكوناً بشبح ابن الأيّلي، مُختفياً خلف صوته. كما أنّ الغيرية التي يمتاز بها ابن الأيّلي عن الثقافة الإسبانية، هي ما ستمدّ ثيربانتس بالإلهام، على طريقة جنّ الشعراء وشياطينهم، حسب تنبيه كيليطو. وإنْ قيل عن حامد هو ابن الإنجيلي (Benengeli)، وليس الأيّلي، فهذا لا يستقيم، كون حامد يدين بالإسلام، أمّا الإنجيلي فذاك اسمٌ له دلالاته المسيحية وليس مغايراً. وهنا لا بدّ من العودة إلى الاسم الأوّل، حسب كيليطو، لنبحث عن علاقة ثيربانتس بالأيل (نوع من الغزلان) الذي يُكتب بالإسبانية Ciervo، وبالتالي فإنّه لم يتخلّ عن اسمه إنما اكتفى بترجمته إلى لسان آخر. إنّه قناعٌ نعم، ولكنّه شفافٌ جداً، ارتضى من ورائه الكاتب بموقع الناقل عن الآخر/ العدو، وهو بذلك "يسعى بصفة هَزلية إلى الردّ على تحفّظ محتمل من القرّاء، ليقول إنّ الاعتراض الذي يُمكن أن يوجّه من حيث صدق قصّتنا هذه، هو أنّ مؤلّفها من العرب".

وإذا كان كيليطو يذكّر بما ادّعاه ثيربانتس، من أنّه قد وجد "تاريخ دون كيخوته دي لا منتشا" في سوق طليطلة، وأنّ كلّ ما فعله أنه أوكل ترجمتها إلى مُترجم "موريسكي" نقلها له عن العربية، فهو يُشير بالمقابل إلى ما عاناه الحريري من اتهام البغداديين له بأنّه قد انتحل مقاماته، وأنّ أسلوبها مغربي لا مشرقي، وأنها "من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده، فادّعاها (الحريري) لنفسه"، وفي كلّ هذا، نماذج ومراتب من التخلّي؛ إلى أن يصل (كيليطو) إلى قضية الروائي الفرنسي رومان غاري (1914 - 1980)، الذي حاز جائزة "غونكور" مرّتين، والتي تمنع قوانينها مثل هذا، مرّة عن "جذور السماء" (1956)، وأُخرى عن "الحياة أمامك" (1975) باسم إميل أجار (اسمه المستعار)، ولم ينكشف الأمر إلّا بعد موته.

يلتفت الكتاب، أيضاً، إلى الرواية بوصفها الفنّ السردي الأكثر معاصرة من بين آداب العربية، إنّما من خلال المحافظة على أجوائه الكلاسيكية، فينظر في ما اعتُبر آخر المقامات العربية وأوّل الروايات بالمعنى الحديث، أي "حديث عيسى بن هشام" (1907) لمحمّد المويلحي. إنّ رواية المويلحي عملٌ يمثّل توقاً إلى أدب جديد، وبقدر ما تبدو بنتاً لتقليدَين أدبيّين، فمن جهة لدينا إحالةٌ تراثية قوية في العنوان، أي عيسى بن هشام، وهو راوية أخبار أبي الفتح الإسكندري، بطل "مقامات بديع الزمان الهمذاني"، ومن جهة ثانية فإن تقوم الرواية على وصفٍ لرحلة الراوي رفقة أحد الباشوات إلى باريس، وهي خارج الجغرافيا الإسلامية التي كانت تدور فيها المقامات، فهذه الأخيرة قد كُتبت بوحي من الأدب الجغرافي، حسب كيليطو. ولمّا كانت هذه العاصمة "أم المدنية ومهبط العمران والحضارة"، كما يكتب المويلحي، فإنّ العمل يستبطن "رؤية المهزومين"، حيث يُقارنه كيليطو بـ"رسالة الغفران"، فتبدو القاهرة "جحيماً" مروّعاً، وباريس "فردوساً" موعوداً!

أخيراً؛ إنّ الكتاب على أهميته ولطائفه المبثوثة باحتراف، تبقى إشكاليّته متمثّلة في أنّه يحتمل شيئاً من امتداح عوالم الكتابة لـ"ذاتها". إنّه يتركنا نتساءل: هل حقّاً كلّ انغماس في الكتابة هو موضع توافُق سلفاً؟ ألا تتحرّك أفكار الفلاسفة وأقوال الشعراء، في نهاية المطاف، ضمن حواضنها الاجتماعية؟ لذا، إذا كان من استدراك على صاحب "حمّالو الحكاية"، (أمرٌ لا يُمكن أن نقول إنّه قد فاته، بل متروك للقرّاء)، فهو أن نقرأ معه استشهاده بمقولة بورخيس، في معرض كلامه عن "بخلاء" الجاحظ: "الكتاب الذي لا يتضمّن نقيضَه يُعتبر كتاباً ناقصاً".

المساهمون