استكشاف حوض الأردن: بعثة البحرية الأميركية ترسم خريطة للمنطقة

استكشاف حوض الأردن: بعثة البحرية الأميركية ترسم خريطة للمنطقة

04 سبتمبر 2021
رسم لبحيرة طبريا في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

تتداخل الدوافع الدينية والسياسية – الاقتصادية التي وقفت وراء البعثة الأميركية لاستكشاف حوض الأردن، بقيادة الملازم البحري وليم فرانسيس لينش في العام 1848. وكانت البعثة الأولى التي تكللت جهودها بالنجاح في وضع خريطة شاملة للمنطقة، ما بين بحيرة طبرية والبحر الميت، وهي التي أثبتت للمرة الأولى أن البحر الميت ينخفض عن سطح البحر 400 متر، بعد بعثتين سابقتين فشلتا في تحقيق أهدافهما، كانت الأولى بقيادة الأيرلندي كريستوفر كوستغان في العام 1835، والذي فارق الحياة قبل إنجاز مهمته، والثانية في العام 1847، بقيادة الضابط الإنكليزي توماس مولينكس، من البحرية الملكية البريطانية، والذي مات هو الآخر بعد أسبوعين من بدء مهمته.

وربما كان لينش هو صاحب الدعوة الأكثر صراحة إلى توطين اليهود في فلسطين وشرقي الأردن، كما أنه كان صاحب المقولة الشهيرة بأن المستكشفين الذين يزيلون العقبات من أمام التجارة والحضارة الغربيتين، ومن أمام الديانة المسيحية، هم النعمة الإلهية الجديدة للبشرية.

وُلد لينش في الأول من نيسان/ إبريل عام 1801 في ولاية فرجينيا الأميركية، وفي العام 1817، بدأ اهتمامه بحياة البحار الجذابة، وأكمل تعليمه غير الرسمي بعد تركه الدراسة النظامية. التحق بالبحرية الأميركية وهو شاب، وفي العام 1847 كلف بقيادة البعثة إلى حوض الأردن، فأنجز مهمته بنجاح في نهاية العام 1848، ووضع كتاباً حول هذه التجربة طبعه في العام 1849 بعنوان: "قصة الرحلة الاستكشافية الأميركية لنهر الأردن والبحر الميت".

وبعد عودته إلى الولايات المتحدة تمت ترقيته إلى رتبة نقيب. كلف بقيادة بعثة استكشافية إلى أواسط أفريقيا بهدف الاستعمار المحتمل، واستقال من البحرية الأميركية حين أعلنت فرجينيا انفصالها عن الولايات المتحدة، وعاد بعد عودتها إلى الكونفدرالية الأميركية، وتوفي في مطلع العام 1865. وقد حظيت رحلته هذه باهتمام الكثير من الدارسين العرب، ومنهم الدكتور عبد الكريم رافق، والمترجم سليمان موسى، والباحث إبراهيم فاعور الشرعة، وغيرهم.

نيويورك إسطنبول بيروت
بعد صدور أمر تكليفه برئاسة البعثة، سافر لينش إلى نيويورك للإشراف على بناء السفينة التي ستلزمه في رحلته، واختار طاقمه المكون من 12 بحاراً، وضابط لمرافقته، وفي السادس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1847، أبحرت البعثة ووصلت إلى إسطنبول في السابع والعشرين من شباط/ فبراير عام 1848، حيث قابل السلطان عبد المجيد، وحصل منه على فرمان بتسهيل وصوله وبعثته إلى حوض الأردن.

وصل لينش وبعثته إلى ميناء بيروت في الخامس والعشرين من آذار/ مارس، فانتقل من سفينته إلى البلدة كي يزور الباشا ويطلعه على الفرمان السلطاني، وهناك اكتشف أن أراضي شرقي الأردن تتبع لباشا دمشق وليس لباشا بيروت، ولكنه اتفق مع شاب سوري ذكي يدعى أميوني كي يرافقه كترجمان، وضم طباخاً يدعى مصطفى إلى الفريق.

وعن بيروت يقول: "إنها مدينة إفرنجية - سورية، تمتزج فيها عادات الغرب والشرق، وقد لفت انتباهنا ذلك الطنطور أو القرن الذي ترتديه النساء الجبليات على رؤوسهن". من بيروت يسافر الملازم لينش برفقة الترجمان ووكيل القنصل إلى حيفا التي كانت في ذلك الوقت قرية صغيرة مسورة، وجدوا صعوبة بالغة في النزول على شاطئها، بل واجهوا الهلاك لولا مبادرة صيادي السمك العرب الذين هبوا إلى مساعدتهم، كما يقول، لافتاً إلى أنهم سباحون مهرة وشجعان. وفي اليوم الأخير من شهر آذار/ مارس هدأت العواصف وتمكن وفريقه من إنزال القاربين اللذين سيستخدمانهما في البعثة، وجميع حوائجهم على الشاطئ.

الشيخ عقيل الحاسي
ينتقل لينش بعد ذلك إلى عكا لمقابلة حاكمها سعيد بيك، وهناك يفاجأ بالخيول الهزيلة التي خصصها له، وتبدأ المساومات بينه وبين أحد شيوخ البدو ويدعى عقيل الحاسي، الذي يخبره عن المخاطر التي ينتظرها في منطقة الغور كون هذه المنطقة تحولت إلى ملجأ للقبائل المتمردة، ولكن الملازم لينش يرفض هذه المساومات ويقول للشيخ عقيل بأنه سيدافع هو وفريقه عن أنفسهم بالأسلحة التي يحملونها، وسيواجهون أي مخاطر يتعرضون لها.

في اليوم التالي يلتقي الملازم لينش في بيت القنصل البريطاني الشريف هزاع، من أشراف مكة من ذوي زيد، ويقول إن محمد علي باشا بعد احتلاله الحجاز عزل والده وعمه عن الشرافة. وقد طلب الملازم لينش من الشريف هزاع أن يرافقه في بعثته، فيتردد الشريف ثم يوافق، وينقل له رسالة من الشيخ عقيل بأنهما سيتفقان معه بمعزل عن سعيد بيك. كان الشيخ عقيل يسكن في قرية عبلين المشرفة على جبل الكرمل، وفي بيته عقد لينش اتفاقاً مع الشيخ والشريف وتم تجهيز الركب بالمتاع اللازم وانطلقوا نحو بحيرة طبريا، وكان الشريف وعقيل يزودان الركب بذبيحة على كل وجبة طعام.

بحيرة طبرية
يقول الملازم لينش في وصف بحيرة طبريا التي رآها من أراضي قرية لوبية الشرقية: "بدت لنا مياه بحيرة طبريا كالمرآة تلتمع تحت أشعة الشمس، والتلال الجرداء تحيط بها وتشرف عليها، فيا لها من ذكريات تثيرها هذه البحيرة في نفوس المسيحيين. وطبريا بلدة مسورة، ولكن الخراب ما يزال ماثلاً فيها من جراء زلزال عام 1837 الذي أهلك قسماً كبيراً من أهلها. لم نشاهد بيتاً أو شجرة خارج الأسوار، ولكن الحقول حولها كانت مزروعة، وبالقرب من بوابتها المتصدعة شاهدنا خيام محرس صغير من الجنود الأتراك. استأجرنا جانباً من نزل في البلدة يملكه أحد اليهود. ثم فوجئنا بحضور الشريف هزاع وعقيل، لأننا تركناهم في لوبية، ولولا شعورهم الطيب تجاهنا ما كان بالإمكان أن يدخلوا إلى منزل رجل يهودي. وجاء ثلاثة من رجال الدين اليهود يزوروننا، فعانقوا الزائرين المسلمين بالأسلوب الشرقي الأصيل. وزارنا أيضاً حاكم طبريا الذي كان واحداً من أقرباء عقيل. لم يكن هناك شك في المقام الرفيع الذي كان يتمتع به الشريف هزاع وابن أخيه الشريف مساعد، وهذا الأخير شاب جذاب انضم إلينا قبل يومين، وكان الحاكم عربياً ذكياً أسمر اللون، ولم يلبث الشريفان وعقيل حتى ذهبا لينزلا ضيوفاً عنده".

الصورة
المسيح يهدّئ العاصفة في بحيرة طبريا. رسم هانز شوفلين الأكبر عام 1517 (Getty)
المسيح يهدّئ العاصفة في بحيرة طبريا. رسم هانز شوفلين الأكبر عام 1517 (Getty)

انطلاق البعثة الاستكشافية وموكب الحجاج المسيحيين
أثناء وجودهم في طبريا وصلت رسائل من القدس، كان بينها بيرولدي من الباشا هناك، وهو مؤرخ في 6 نيسان/ إبريل 1848، ويتضمن أمراً إلى شيوخ العربان بتقديم ما يلزم من مساعدة. انطلقت البعثة الاستكشافية من طبريا باتجاه الجنوب، ومرت في طريقها بأراضي قبيلة البشاتوة قرب جسر سمخ، وهم يعدون 200 مقاتل، والعبيدية على بعد ساعة وراء النهر، وهم يعدون 500 مقاتل، والصقر ويعدون 300 مقاتل. وهنا أرسل الملازم لينش أحد مساعديه، وهو الدكتور أندرسون، لاستكشاف أم قيس جدارا القديمة، في حين وصل رسل من الأمير ناصر الغزاوي يعرض خدماته، فأرسل له لينش شكراً خاصاً مع عباءة وكوفيه هدية. وبعد جسر المجامع الذي يمر به طريق نابلس- بيسان- دمشق نصبت البعثة مخيمها وبدأت تعمل.

يقول الملازم: "في هذه الأثناء عاد الدكتور أندرسون من زيارته لأم قيس، وأفاد أنه عبر نهر اليرموك من شريعة المناظرة، فوق جسر الأحمر الذي كان في حالة جيدة. وفي أثناء تجواله بين معالم الآثار لم يجد سكاناً في الموقع. وقال إنه شاهد من بعيد قرية صمد، وأن عدداً من الفلاحين ما زالوا يقيمون فيها كونهم يدفعون إتاوة سنوية لحماية أنفسهم من اعتداءات القبائل البدوية، كما شاهد من بعيد بيوت شعر لبدو السرو".

ويخبرنا لينش عن سهرة جمعت الأمير ناصر العزاوي مع عقيل الحاسي تعاتبا فيها بسبب قيام عقيل بغزو أراضي الأمير ناصر ونهب قطعانه ومواشيه، وكيف أنهما تصالحا وتعاهدا على الأخوة في نهاية السهرة، ولا ينسى أن يصف لنا سهرة في خيمة الشريف هزاع تضمنت عزفاً وغناء على الربابة.

بعدما أنهى فريق الاستكشاف مهمته في أراضي الأمير ناصر تابع طريقه نحو البحر الميت، وعبر نهر الزرقاء القادم من الشرق، ثم لاقاهم رسول بعث به شيخ قبيلة هتيم التي تقيم غير بعيد عن أريحا، ومعه هدية من البرتقال، ونوع من الحلويات هي مزيج من الدبس والسمسم، قيل إنه من صنع دمشق. وبعد مسافة وصلوا إلى المشرع، وهو الموضع الذي يغطس الحجاج المسيحيون فيه. وعند العصر وصلوا إلى الموضع الذي يخيم فيه الحجاج القادمين من القدس، حيث دخلوا أراضي قبائل البدو الرحل في الغور الأدنى.

في فجر الثامن عشر من نيسان/ إبريل وصلت الأنباء بوصول موكب الحج الذي وصفه الملازم لينش كما يلي: "شاهدنا آلاف المشاعل ترتفع فوق رؤوس كتلة متراصة من الناس يزحفون بسرعة فوق التلال. وبادرنا إلى إنزال خيامنا وإلى نقلها وتقل أمتعتنا مسافة قصيرة إلى اليسار. لم نكد ننتهي من ذلك حتى شاهدنا الحجاج يندفعون نحو الضفة: رجالاً ونساء وأطفالاً، وهم على ظهور الخيول والجمال والبغال والحمير. في هذا الوضع وقف أصدقاؤنا البدو وقفة ثابتة إلى جانبنا، إذ غرزوا رماحهم المزدانة بريش النعام أمام خيامنا وامتطوا ظهور جيادهم وألفوا حاجزاً عسكرياً حولنا. والحقيقة أنه لولاهم لاقتحمنا الحجاج بأقدام حيواناتهم ولفقدنا معظم ما معنا من أمتعة وأدوات. كان غريباً أن تعمل جماعة من أبناء الصحراء المسلمين على حمايتنا من حشد المسيحيين. حقاً لم ينقذنا إلا رماح البدو ذوي الوجوه السمراء".

مدينة الكرك
بعد ذلك يحدثنا عن مدينة الكرك التي قال إن فيها شيخين، الأول: مسلم يدعى محمد بن عبد القادر، وعمره ثلاثون سنة، والثاني: مسيحي يدعى الشيخ عبد الله النحاس بني خلاص شيخ عشيرة المسيحية، وعمره ستون سنة، وقال إنه يستطيع جمع 250 بندقية، وقال إن سليمان ابن الشيخ المسيحي عبد الله، دعاه لزيارة أبيه في قلعة الكرك، والاطمئنان على أفراد البعثة ومعرفة احتياجاتهم. وقد لبى لينش دعوة الشيخ عبد الله؛ بدافع الفضول ومعرفة أوضاع مسيحيي الكرك، الذين يشكلون أقلية في البلدة، بالإضافة إلى تنفس هواء الجبال بأسرع وقت ممكن، حيث كان ينتابه القلق بخصوص صحة مرافقيه المتدهورة.

ويشير الملازم لينش إلى أن العرب المسيحيين في الكرك، يزرعون الذرة والتبغ وبعض النيلة، ويقول إن بعض أصولهم تعود إلى العرب المسلمين الذين تحولوا إلى المسيحية، والبعض الآخر من بقايا الحملات الصليبية في القرون الوسطى. ويبدي لينش تعاطفاً مع هؤلاء المسيحيين بسبب الاضطهاد الذي يتعرضون له من جانب جيرانهم المسلمين الفوضويين، ويقصد بذلك البدو المتمردين الذين لم يكونوا، في حقيقة الأمر، يميزون في غاراتهم بين مسيحي ومسلم.

غادر لينش البحر الميت في 8 أيار/ مايو عام 1848، ووصل إلى مدينة القدس في 18 منه، ولاحظ وجود حقول من القمح، والزيتون، والتين، وبعض أشجار المشمش التي غطت الأراضي الصالحة للزراعة، على مرمى بصره، وأشار إلى أن أهالي المناطق المحيطة بالقدس يزرعون بالإضافة إلى الزيتون والتين، كذلك القمح والشعير والذرة والعدس والشمام والخيار والخرشوف والبطاطا، وهم يعتنون أيضاً بتربية دودة القز ويصنعون بعض الحرير.

الشيخ أبو غوش
أخيراً غادر مدينة القدس في الثاني والعشرين من أيار/ مايو، فمر بوادي لفتا وقرية قالونية، وأشار إلى أن المسافرين لم يكونوا يخشون أي ابتزاز من قبل عائلة أبو غوش القوية. وأن لامارتين بالغ عندما قال إن شيخ أبو غوش يخضع لأمره خمسون ألف عربي. ويذكر قصة غريبة تتعلق باقتلاع العيون بحملات التجنيد التي كان إبراهيم باشا المصري يقوم بها، وكيف كان بعض الأهالي يلجأون إلى حيلة لتفادي التجنيد تتمثل باقتلاع الشخص المطلوب للجندية إحدى عينيه، ويقول إن إبراهيم باشا خيب أملهم وشكل كتيبة لأصحاب العين الواحدة.

وعند مرورهم بقرية العنب خرج عليهم الشيخ أبو غوش لاستيفاء الإتاوة، وبعد مماحكة مع الترجمان وعرض الفرمان السلطاني، قال لهم الشيخ أبو غوش: إن ألف رجل لا يستطيعون المرور من دون إذنه. وفي وصفه للشيخ أبو غوش، يقول: "كان ذلك الشيخ أبيض اللون ذا ملامح أوروبية وشارب أشقر. إنه شقيق أبو غوش الشهير الذي بث الرعب طويلاً في هذه المنطقة، وكان نتيجة أعمال القتل والنهب التي اقترفها أنه سيق قبل مدة إلى إسطنبول، وقيل إنه يعيش هناك حياة المنفى".

وبعد ذلك يصل لينش ورفاقه إلى يافا التي يكتب عنها وصفاً مقتضباً، ومنها يتوجه على متن قارب شراعي صغير إلى عكا، فالناصرة، فطبرية، فبانياس الجولان، ثم حاصبيا قبل أن يصلوا إلى دمشق التي يمكث فيها عدة أيام يتحدث عن أوضاعها في ذلك الزمن، ومنها إلى بعلبك، فبيروت، حيث غادروا إلى أميركا ووصلوها في مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر 1848.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون