مطران في بلاد النصارى.. وصف رحلة إلى فرنسا عام 1660

مطران في بلاد النصارى.. وصف رحلة إلى فرنسا عام 1660

14 اغسطس 2021
رسم لجزء من باريس في القرن السابع عشر (Getty)
+ الخط -

كان يمكن لرحلة المطران الماروني إسحق الشدراوي إلى باريس في عام 1660 أن تكون مرجعاً ثميناً عن فرنسا وعاصمتها وملكها لويس الرابع عشر؛ لو أنه استرسل في كتابة وقائع الرحلة، ووصف الأماكن التي زارها، ولكنه شاء الاختصار، فخسرنا بذلك كتاباً كان يمكن أن يشكل إضافة مهمة في أدب الرحلة خلال القرن السابع عشر.

ولد رحالتنا في شدرا بعكار، ودخل مدرسة الموارنة في روما سنة 1603، وأقام فيها إلى سنة 1618، ورقاه البطريرك جرجس عميرة إلى درجة الكهنوت سنة 1620، وجعله رئيس كهنة بيروت، ثم رقاه البطريرك يوحنا مخلوف إلى أسقفية طرابلس سنة 1629، وله من المؤلفات كتاب في نحو اللغة السريانية، وقصيدتان في مديح البابا أدريانوس الثامن، والبطريرك يوحنا مخلوف، واستدعاه الكردينال فريدريك بوروماوس إلى مديولان؛ لتنظيم مكتبته الشهيرة بهذه المدينة. وله مباحث لاهوتية في عمل الرب في ستة أيام الخلق، وفي الفردوس الأرضي والخطية الأصلية والموت، ويمبوس الآباء، والفردوس الأرضي وجهنم إلى غير ذلك، غير أن أهم كتبه هو كتاب المناجاة بين المعلم والتلميذ الذي ذكر فيه وقائع رحلته إلى فرنسا، وهو كتاب مخطوط حقق بعض أجزائه لويس شيخو ونشر تحقيقه لهذه الرحلة المكتوبة بالكتابة الكرشونية (أي خط سرياني ولغة عربية) في مجلة المشرق عام 1899. وقد توفي المطران إسحق في مدينة جبيل سنة 1665، أي بعد عودته من رحلته الأخيرة بنحو عامين.


جواب عن سؤال

كتب الشدراوي وقائع رحلته كجواب عن سؤال لأحد تلاميذه حول رحلاته الأربع إلى بلاد النصارى، والمقصود بذلك أوروبا، فقال: "دخلت بلاد النصارى المرة الأولى زمن البطريرك المرحوم يوسف من بيت الرز، هو الذي بعثني وأخي سركيس واثنين آخرين من قرية حصرون اسمهما يوحنا وميخائيل، فذهبنا مع المطران يوحنا الحصروني الراهب الدومنينيكاني لنتعلم في مدرسة الموارنة في رومية، وقد ذكرت ذلك في مقدمة غراماطيقي السرياني الذي طبعته في رومية، ومنها تعرف سبب رحلتي من حلب ودخولي بلاد النصارى ثاني مرة، أما سفرتي الثالثة فقد تمت بأمر البطريرك يوسف العاقوري من بيت حليب أرسلني لمصالح الطائفة".

وحول رحلته الرابعة والأخيرة قال الشدراوي: "كان دخولي المرة الرابعة في بلاد النصارى في عهد البطريرك يوحنا الصفراوي وبأمره لأجل الشيخ أبي نوفل من بيت الخازن لتأتي له بقنصلية مدينة بيروت من عند سلطان فرنسة فكان خروجي من مدينة طرابلس في غاليون فرنساوي اسم قبطانه ريفردوي وهو بارون فرنساوي وصاحب الغليون وكان ذلك يوم السادس من شهر شباط سنة 1660م وبعد ما مكثنا في البحر سبعة وعشرين يوماً وصلنا إلى مدينة ليفورنو، وبعد مدة شهر إلى مدينة بيزا ومنها دخلت مدينة الكرندوكا ومنها عبرت إلى مدينة سيانا ثم إلى بلاد الباب ووصلت إلى مدينة رومية العظمى في آخر يوم من شهر نيسان سنة 1660".


حجر صحي في روما

ويقول الشدراوي إن سبب مروره بروما هو أنه كان يريد أن يتكلم مع البابا بشأن كتاب توصية لملك فرنسا لويس الرابع عشر يزكي فيه الشيخ أبي نوفل الخازن من أجل أن تعتمده فرنسا قنصلاً في بيروت، ولكن وبعد أن وصل إلى روما بأسبوعين وصل وباء الطاعون إلى المدينة، فضرب الحجر عليها لمدة عامين ولم يتمكن رحالتنا من مغادرة المدينة. وقال في ذلك: "بعد أن وصلت رومية بنصف شهر حدث فيها طاعون ولم يعد يمكن أحداً أن يخرج إلى البلاد أو يدخل منها. وهكذا عملوا في جميع بلاد النصارى لئلا ينقل أحد رائحة الطاعون، ولهذا السبب بقيت سنتين محبوساً في رومية والدروب مقفلة".

ويتابع قائلاً: "بعد سنتين أنعم الله علينا وعليهم، ورفع الطاعون عنا وعنهم، وانفتحت الدروب، فخرجت من رومة وأتيت إلى مدينة ترني ومنها إلى مدينة سبوليتي، ومنها إلى فولينيو، ومنها إلى كامرينو، ومنها إلى ماشيراتا، ثم إلى ريكاناتي، ثم إلى لوريتو، وهناك بيت سيدتنا العذراء مريم، فمكثت في المدينة أربعة أشهر في فصل الشتاء بسبب الثلج والبرد الذي بتلك السنة. والحمد لله الذي يسّر لي أن أقدم إلى هذا الموضع المبارك وأحظى ببركته وشفاعته".


من لوريتو إلى فلورنسا

انطلق المطران الشدراوي من مدينة لوريتو في مقاطعة كمبانيا في جنوبي إيطاليا إلى مدينة أسيمو، ومنها إلى مدينة ياسي، ومنها إلى مدينة أنكونا، ثم إلى مدينة سينيكاليا، ثم مدينة بيسارو، ثم مدينة ريميني، ثم مدينة راوونا، وهناك مكث أربعين يوماً في المدرسة التي أنشأها القس نصر الله الماروني العاقوري، وفيها قام برسم مديرها كاهناً باسم متى بن ميخائيل، وهو من قرية بان في جبة بشراي، كما سام شدياقين (الشدياق هو رئيس الدير) هما جرجس المقير وبولس التلميذين في المدرسة. وكان المطران الشدراوي قد أخذهما سابقاً معه من بلاد كسروان لتلك المدرسة.

ويقول رحالتنا: "من هذه المدينة (أي رافينا على ساحل البحر الأدرياتيكي) دخلت إلى مدينة إيمولا ثم إلى بولونيا وهي مدينة معظمة ليس أكبر منها بعد رومية في حكم البابا. وهناك ثبت في عيدين بنات وصبياناً يبلغ عددهم خمسة آلاف وخمسمائة، ورسمت أكثر من خمسة عشر شماساً وشدياقاً. وهناك صار لي عز وإكرام عظيم من أعيان المدينة".

بعد ذلك استأجر وكيل مطران رافينا للمطران الشدراوي راحلة عليها محارة، أي هودج، وأرسله إلى مدينة فلورنسا التي مكث فيها سبعة عشر يوماً في دير الرهبان الدومينيكان. ويقول إن هذه المدينة شهدت مجمعاً مسكونياً سنة 1450 وهو المجمع الذي اتفق فيه الروم أي الأرثوذوكس والفرنج أي الكاثوليك. ويقول المطران الشدراوي إن هذا المجمع ثبت أن رأس الكراسي وأولها هو كرسي روما، والثاني الكرسي القسطنطيني، والثالث الإسكندري، والرابع الأنطاكي، والخامس الأورشليمي.

ومن فلورنسا سافر رحالتنا في مركب في نهر آرنو إلى مدينة بيزا، ومنها في قارب إلى مدينة ليفورنون وهناك مكث سبعة وعشرين يوماً حتى سافر في غليون إنكليزي إلى مدينة مرسيلية، والغليون سفينة شراعية كبيرة ومتعددة الطوابق استخدمتها الدول الأوروبية لأول مرة كناقلات بضائع مسلحة في القرن السادس عشر. ومن مرسيلية إلى مدينة أبينيوني (أفينيون)، ويقول إنها من بلاد بابا روما.


مرسيليا وأفينيون

قبل الانتقال إلى باريس للقاء ملك فرنسا لويس الرابع عشر (الصورة)، مكث المطران إسحق الشدراوي في مرسيليا على ساحل البحر المتوسط، قبل الانتقال إلى أفينيون ومنها إلى العاصمة الفرنسية. ويقول في كتابه: "كنت سكنت في مرسيليا أربعة أيام في بيت الخواجا يوسف بدوق أبي الخواجا كرم وأخيه أنطون المقيمين الآن في بيروت. أما أبينيوني (أفينيون) فبقيت فيها سبعة عشر يوماً عند الرهبان الدومينيكيين ثم ركبت مركباً منها على نهر الرون إلى مدينة ليون، فوصلنا إليها بعد عشرة أيام. وسمت في هذه المدينة عشرة قسوس من اليسوعية وواحداً عامياً. ومنها ركبنا مركباً إلى مدينة شالون حيث استأجرت عربة بلغتنا في أربعة أيام مدينة أوصير، ومن هناك نزلت في مركب إلى مدينة باريس. واجتزت في طريقي بمدن وقرى ومزارع لا تحصى".


في حضرة لويس الرابع عشر

في باريس انتظر المطران الشدراوي شهراً كاملاً حتى عاد ملك فرنسا لويس الرابع عشر من الحرب. وبعد عودته بثلاثة أيام تمكن المطران من مقابلته والحصول على أمر قنصلية بيروت وتسليمها للشيخ أبي نوفل. وقفل عائداً بأمر الملك إلى مرسيلية في الطريق التي أتى منها إلى باريس.

ويقول مخاطباً تلميذه: "قبل أن أذكر لك أيها التلميذ الحبيب خبر رجوعي بحراً إلى بلادنا، أصف لك عظم مدينة باريس وما فيها. وكنت مكثت قبلاً سنة تامة. وهاك ما وجدت في كتاب مطبوع في لسان اللاطين عنها. قال إن في باريس خمسين مدرسة لتعليم الأولاد غير مدارس البنات وفيها خمسمائة درب وأكثر من ستين قصراً من القصور الكبار، وللمدينة سبعة عشر باباً وأحد عشر جسراً وعلى الجسور بنايات مليحة فيها ثلاثون نبع ماء وآبار بلا عدد. وكنائسها أكثر من ثلاثمائة وأديرة رهبانها ثلاثون ومثلها للراهبات. وفيها أكثر من ستين خورنة (رعية)".

ويضيف: "دعاني أحد الخوارنة وقال لي تحت يده اثنتين وسبعين ألف نفس. وعدد سكانها قرب خمس عشرة كرة من النفوس (أي مليون ونصف المليون) يذبح فيها كل يوم ثلاثمائة رأس بقر وثلاثة آلاف رأس غنم وثمانون ألف من الفراريج والحمام وغيرها من الطيور. وهذا ما وقفت عليه من أمر باريس".

الصورة
لويس الرابع عشر - القسم الثقافي
لويس الرابع عشر (Getty)

في مرسيليا وجد رحالتنا سفينة فلامنكية من صنف الغليون مبحرة إلى جهة طرابلس على ساحل بلاد الشام، إلا أنه انتظر اثنتين وأربعين يوماً بسبب انتظار ريح مواتية. ويقول المطران الشدراوي: "هذا الغاليون كان منيعاً فيه ستة وثلاثون مدفعاً وستة وستون نفراً غير الركاب. فسافرت فيه ولما وصلنا إلى جزيرة قورسقا (كورسيكا) ردنا الريح إلى مدينة ليفورنو، ومنها بعد ستة أيام وصلنا جزيرة مالطة، ومكثنا فيها خمسة أيام، وسافرنا منها إلى طرابلس، ولم نقف في البحر إلّا اثنين وعشرين يوماً ولله الحمد الذي وفق مسيرنا فلم ننظر في طريقنا شيئاً نكرهه".


فرحة العودة

ويضيف: "لما وصلت إلى طرابلس استأجرت قارباً بسبعة قروش وجئنا ليلاً إلى جونية، ومنها وصلنا إلى بيتنا في زوق مصبح، وصار في وصولنا إلى بلادنا فرح عظيم عند الشيخ أبي نوفل المذكور، وعند ولدنا الشدياق يعقوب، وعند ولديه فضل الله ولطف الله، وعند أهل بيته، وعند أهالي زوق مصبح، وعند بقية الأقارب والمحبين. وبعد وصوبنا بثمانية أيام قرئ الأمر الشريف في كنيسة بيروت، وباركت خلعة القنصلية وألبستها للشيخ أبي نوفل، وصار ذلك في حضور الفرنج وشعب غفير من الموارنة. وعمل الشيخ دعوة للتجار الفرنج، وحضر والوليمة كثيرون من النصارى والمسلمين وصار فرح عظيم".

ويتابع قائلاً: "تسلم الشيخ المذكور قنصلية بيروت في اليوم العشرين من كانون الثاني سنة 1663 الله يهنئه فيها هو وأولاده إلى دهر الداهرين آمين، لأنه قائم في ناموس النصارى في نظر الله وفي نظر الأميرين من أولاد معن: الأمير أحمد والأمير قرقماز أخيه جعلهما الله دائمين الدهر كله ونصرهما على أعدائهما آمين يا رب العالمين".


خلاصة

بعد ذلك يعود المطران ليوضح لتلميذه أنه لما ذهب في المرة الثالثة إلى بلاد النصارى أي أوروبا، دخل مدينة سيراقوسة على جزيرة صقلية، وسار منها إلى مدينة مسينة، ومنها أتى بحراً إلى مدينة نابولي، ومنها إلى روما ثم إلى البندقية، ثم إلى بادوا، ثم إلى فيرونا، ثم إلى منتوا كرسي دوكامنتوا، ومنها إلى مدينة بيركمو، ومنها إلى ميلانو، ثم تورينو كرسي دوكا سابوديا، وفيها مكث أكثر من أربعين يوماً. ويقول إنه نزل في دير الرهبان الدومنيكان فبعثت له زوجة الدوق التي كانت في ذلك الزمان أخت ملك فرنسة خدمة، وأعطته زوادة حتى وصل إلى مدينة باريس أول مرة وكان ذلك سنة 1647.

وفي ما يشبه الخلاصة قال: "وفي هذه الأربع مرات التي فيها دخلت بلاد النصارى، نظرت ستة باباوات وتكلمت معهم وهم: إقليميس ولاون، وبولس، وأوربانوس، واينوشنسيوس، وألكسندروس، وهو في يومنا هذا جالس على الكرسي الروماني. ولله الحمد قد حظيت ببركة كل هؤلاء. وأيضاً على زماني صار ستة بطاركة في قنوبين: البطرك يوسف من بيت الرز الذي بعثني إلى رومة، والبطرك يوحنا بن مخلوف، وهذا رسمني قسيساً وخورياً ومطراناً، والبطرك جرجس من بيت عمرة من قرية إهدن، والبطرك يوسف العاقوري من بيت حليب، والبطرك يوحنا الصفراوي، والبطرك جرجس من قرية سبعل ابن الشيخ رزق الله من أعيان أهالي زاوية طرابلس وهو الجالس اليوم على الكرسي الأنطاكي على الملة المارونية أدامه الله زمناً طويلاً آمين".

المساهمون