أمين شنّار: الكابوس الذي تحوّل إلى عزلة

أمين شنّار: الكابوس الذي تحوّل إلى عزلة

19 نوفمبر 2020
+ الخط -

بهدوء استدعى ذاكرةً عمرها نحو أربعين عاماً، مرّ رحيل الكاتب الأردني الفلسطيني أمين شنّار عام 2005؛ فلم يعد الأمر أكثر من بضعة أخبار نشرتها الصحافة المحلية، كلُّها أشارت إلى كتاباته الشعرية والروائية في مرحلة ماضية وإلى دور تأسيسي في الحياة الثقافية الأردنية انتهى إلى عزلة مديدة.

صاحبُ ديوان "المشعل الخالد" (1957) المولود عام 1934، يرتبط اسمه بالشاعر الأردني تيسير سبول (1939 - 1973) لتقاسمهما جائزة "جريدة النهار" عام 1968، حيث نالها عن روايته "الكابوس"، بينما نالها الأخير عن روايته "أنت منذ اليوم".

لم تكن هذه المناصفة محض صدفة لعملين مثّلا ردّ فعل على هزيمة حزيران 1967، والتي اختار شنّار أن يعبّر عنها برمزية بدت مستغربة في لحظة الانكسار وسياق التجريب الذي ميّز السرد العربي آنذاك، خلافاً لسبول الذي لجأ إلى المكاشفة والفضح وتعرية موروث عربي ممتدّ من الاستبداد والتسلّط اللذين حجبا الواقع تحت ذرائع وصائية أبوية.

رواية تلجأ إلى الاستعارة رفضاً لاشتراطات الواقع

بُعد رمزي فرضته عوامل عدّة في مقدّمتها خلفية الكاتب وثقافته الصوفية الدينية وانشغاله الدؤوب بالتوفيق بين الحداثة والإسلام تدلّ عليه خياراته في النشر كمحرّر للصحف التي عمل فيها، والمواءمة بين العلم والدين، كما أوضحه في برنامجه التلفزيوني "سبحان الله"، إلى جانب انتمائه في فترة مبكرة إلى "حزب التحرير الإسلامي"، وهي مؤثرات قادته غالباً إلى تبني كتابة تتسق مع مرجعياته الفكرية والأدبية.

ويمكن القول أيضاً إن هذه الاعتبارات جميعها دفعت شنّار إلى الحديث عن فلسطين بوصف يبتعد عن مفهومها كوطن لدى النخب القومية أو اليسارية وما ينتجه من خطاب وأدوات، فهو ينظر إليها في إطار فهمه للمجتمع ودور الفكر في نهوضه، ووفق هذه النظرة فإن الوطن يصبح مفهوماً أشمل يتطلّب سرداً ينزع نحو التجريد، والفنتازيا إلى حد ما، وينطبق على جميع أوطان المسلمين.

في فهمه لطبيعة ما حدث وقاد إلى الهزيمة، يشير الكاتب الأردني إلى أن الخلاص من تخلّف المجتمع وجهلِه لا يكون إلّا بالعلم، حيث تبدأ الرواية عندما يتسلّم الشاب المتعلّم فرحات من والدته أمانةً تركها له جدّه، تتضمّن أوراقاً محفوظة في صندوق حديدي يكسوه الصدأ، كتبها الجد الذي كان أول شخص يقرأ ويكتب في القرية.

رأت الرواية في العلم مفتاحاً للتخلّص من الاستبداد

يشكّل مضمون الأوراق أهمية مماثلة، فهي تلخّص بشكل دقيق وبلغة بليغة الفوارق الطبقية ومقدار الظلم الذي يتعرّض إليه أهل القرية الذين يعملون لقاءَ قوت يومهم، بينما يهيمن الشيخ الكبير الذي يقطن الجبل (جبل البخور) على ملكية جميع الأراضي ويرغم الجميع على العمل لديه.

يُفرد شنّار جزءاً كبيراً من روايته لنقد حالة الطاعة العمياء المطلقة للشيخ والتي تعيق نهوض المجتمع وتقدّمه، وهنا تتأكد رؤيته لفلسطين كامتداد لمجتمع عربي وإسلامي يعيش الأزمة ذاتها ممثلة بعبادة الفرد كسبب رئيس يؤدي إلى أزمات أكبر، إلا أن قيوداً تحدّ مقولته عبر الإشارة إلى أن الشيخ الجديد مجهول النسب والهوية ولا يُعرف كيف وصل إلى السلطة، لذلك يحنّ الناس إلى الشيخ نجم الذي كان مثال الاستقامة والعدل قبل أن يصاب بالخرف.

في استكمال بنائه الرمزي، ينوّه الكاتب بغزو الخواجات للقرية وإزاحة الشيخ الكبير عن الحكم بشكل فعلي، في إحالة إلى الهجرات اليهودية إلى فلسطين، حيث يسعى الشاب المتعلم فرحات إلى تخليص أهل قريته منهم، بالاعتماد على أوراق جده التي كتبها بعد أن اتُّهم بالجنون الذي يبدو علامة للاختلاف والمغايرة عن المجتمع من خلال العلم، ومعرفة ما يتهدّده من أخطار.

لم يفوّت شنّار في تعظيمه لخطر العدو الخارجي وسلبه للأرض والسيادة، التنبيه إلى المشاكل الداخلية التي لعبت دوراً في تسهيل مهمّة العدو، ومنها الخلاف بين شيخ الجامع الذي لا يرى في الانفتاح على العالم سوى مؤامرة تحاك ضدّ القرية، وبين فقيه المدرسة الذي يحلم أن يلتحق أهل قريته بركب التحضر، أو في استغلال التاجر وتوجيهه للناس وفق مصلحته الشخصية.

هل كانت الرواية ردّاً على هزيمة حزيران/ يونيو؟ ربما. لكنها كانت بالطبع تعبيراً عن فهم سياسي لم يكن ممثلاً في الواقع، ولذلك اختار صاحبه العزلة حتى رحيله، بينما اختار تيسير السبول، الذي كان منتمياً للواقع ورافضاً لاشتراطاته، الانتحار. خياران متضادان في العيش وفي التخييل لكنهما يعبّران عن الهزيمة نفسها. 

المساهمون