"منزل عائم فوق النهر" لزينب مرعي: العنف والخفّة

"منزل عائم فوق النهر" لزينب مرعي: العنف والخفّة

13 يونيو 2021
(زينب مرعي)
+ الخط -

"منزل عائم فوق النهر" عنوان رواية زينب مرعي الصادرة عن "دار نوفل" (2021)، يؤشّر للرواية رغم أنه ليس محوراً فيها. المنزل العائم فوق النهر أقرب إلى أن يكون صورة، أقرب إلى أن يكون شعراً أكثر منه واقعاً. رواية زينب مرعي (1986) هي أيضاً هذا المزيج بين الشعر والواقع، الذي هو، في عنفه وفي قساوته، يبدو أيضاً أقرب إلى صورة. حدّته ومبالغته فيها تجعلان منه، على نحو ما، فوق الواقع. لا يمكننا هنا أن نتكلّم عن السوريالية، لكننا نستطيع أن نتكلّم أكثر عن شعرية ما.

الفصل الأول من الرواية يكاد يختصرها، لكن ليلى، التي هي الراوية، تبسط من طهران رواية تتجمّع عناصرها من بيروت. لكن الفصل الأول لا يُشرف على الرواية فحسب، بل يبدو وكأنه المقابل الواقعي لها. في طهران وفي القطار نجد ما يمكن اعتباره أرض الواقع في الرواية. طهران هي المقابل الواقعي لبيروت التي هي ما فوق الواقعي. التي هي، بمعنى آخر، غرائبية الواقع، أو الإفراط فيه، أو قراءته من وراء الواقع ومن قعره. القطار الطهراني هو هذا الهبوط على الواقع. في القطار قد نقف قليلاً عند روشنا التي هي رفيقة قطار تهبط منه قبل محطّتَين من هبوط الراوية. روشنا تصطحب معها عصفورها في قفص تضعه جنبها بعد أن اشترت له بطاقة سفر، مصرّة على أن يكون له مقعده. نحن أيضاً أمام صورة هنا، لكنها الواقع في أقصى حالاته وقد استحال إلى صورة.

الفصل الأول مكتوب مع ذلك بلغة هذا الواقع، مع أنّنا نجد فيه إشارات لما سيبدو بعد ذلك هيكل الرواية الذي يتحدّر من بيروت. نعثر هنا على بنيامين؛ الزوج الذي، بحسب النص، لم يعد يقدر أن يحتمل، وغادر البيت تاركاً زوجته ليلى الراوية الأولى. سنعثر أيضاً على الأم وعلى شيرو، الشخصية الغامضة التي عثر عليها الزوج في حياة زوجته، ودفعه ذلك إلى هجر منزله. سنعثر أيضاً على الأخت الميتة وعلى الأم كارهة الرجال، وسيكون لذلك مداه في الفصول التالية التي تعيدنا إلى سلالة من نساء، أولاهن الجدّة بديعة التي تزوّجت "المتأتئ"، واصطحبت معها عشيقها في علاقة ثلاثية غريبة انتهت بمقتل الزوج والعشيق.

طهران هي المقابل الواقعي لبيروت التي هي ما فوق الواقعي

سيطبع هذا العنف وتلك الدموية الابنة التي عاشت، هي الأُخرى، بين رجُلين: المطرب المعشوق والزوج المدمن. كارهة الرجال هذه شخصية أسطورية في قسوتها وكراهيتها التي لم تعف منهما ابنتيها: الراوية وأختها بانة. لن يكون بيت الأم "فاطمة" سوى استطراد لبيت الجدّة: رجُلان في حياة كلٍّ منهما وقسوة خيالية. لم تعرف الأمّ فاطمة أيَّ الرجُلين والدها، لكنها تحمل ضغناً ضدّ الرجال بكلّيتهم، وحين تقع ابنتها المفضَّلة في غرامٍ هو الآخر غرائبي، إذ إنها ترضى بعلاقة حبيبها الغامضة مع امرأة أُخرى، وتقبل أن تتقاسمه معها. غرام الابنة وتهافتها في هذا الغرام ينزعها من أمّها التي تقوم بقتلها في لحظة انتحارها.

هذا الازدواج بين القتل والانتحار واحد من غرائب الرواية، التي تنتهي بأن تحمل الأم وابنتها المكروهة جسد الابنة بعد لفّه في غطاء وترميانه في النهر، فنبقى وتبقى معنا الرواية حائرة بين أن تكون الابنة "بانة" قضت منتحرةً أو قتيلة. الواضح أن الاثنين يتراكبان ويدخلان بعضهما في بعض.

الصورة
منزل عائم فوق النهر - القسم الثقافي

هكذا نقف أمام سحر الرواية وغرائبيتها، نقف أمام ما يمكن أن نسمّيه شعر الكراهية أو تخييل العنف. التناقضات هنا تزدوج وتتوالد، وهي في ذلك تبدو أقرب إلى فانتازيا أو واقع سحري. القساوة في أقساها وفي تطرُّفها تبدو أقرب إلى الخيال، والكراهية تبدو أساساً لسحر خاص.

تقلب زينب مرعي الواقع على نفسه، تستولد منه ما يبدو خياله، وهي تمضي في ذلك من أكثر من جهة. حين نعلم أن شيرو الاسم الذي حفز بنيامين الزوج على هجر المنزل ليس حقيقياً، إنه اسم افتراضيّ، اختراع فحسب، فليلى التي أمضت طفولة وحيدة كانت تخترع لنفسها أصدقاء افتراضيّين، تلاعبهم ويلاعبونها وتحادثهم ويحادثونها. من تبقّى لها من هؤلاء كان هذا الذي حمل اسم شيرو، هذا ما يبدو أقرب إلى طرفة، إلى نادرة فحسب. تبدو على شيء من الخفة، بل الفكاهة مقابل الصرامة والعنف والجنائزية التي وسمت الأمّ التي طعنت زميلة لها "لكي تصمت".

ليست قصّة شيرو وحدها الخفيفة، بل المقلب الذي رتّبته ليلى العائدة بدون سبب مقنع إلى بيروت، لتكون، لأمر ما، جنب أمّها المكروهة. رتّبته لأمّها بعد خوف غير مفهوم من أن تقلب زوجها عليها. هذه الخاتمة التي تبدو مصالحة وعودة إلى الواقع، بعد كل هذا المسار الغرائبي. هذه تبدو مقابل تشنُّج الرواية ودراماتيكيتها المبالغة، متسرّعة وأقرب إلى حيلة روائية.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون