"جامع الرصاص" في شمال ألبانيا: رمزٌ قاوم تقلّبات الطبيعة والسياسة

"جامع الرصاص" في شمال ألبانيا: رمزٌ قاوم تقلّبات الطبيعة والسياسة

22 سبتمبر 2022
"جامع الرصاص" وسط المياه، ربيع 2014 (Getty)
+ الخط -

مَن يزرْ ألبانيا هذه الأيام يُفاجأ بالحضور العربي في شوارع وفنادق وأسواق عاصمتها تيرانا، والذي تزايد خلال السنوات الأخيرة، ولا سيّما من دول الخليج ومصر. وما يشدّ السيّاح العرب هو الاكتشاف الجديد لبلاد كانت مغلقة لعدة عقود ضمن نظام شيوعي خاصّ من نوعه فاجأ العالم في عام 1967 بإعلانه ألبانيا "أوّل دولة إلحادية في التاريخ"، بينما هُم يرونها الآن نموذجاً جاذباً يجمع الشرق والغرب مع رؤية الجوامع العثمانية فيها، والتي تشير إلى مكانة ألبانيا خلال عدة قرون باعتبارها أقصى امتداد للدولة العثمانية في اتجاه الغرب. وهذا الامتداد للشرق في اتجاه الغرب هو الذي جعل ألبانيا، حتى مطلع القرن العشرين، تدخل في الخرائط الأوروبية ضمن "الشرق الأدنى"، بل باعتبارها "مفتاح الشرق الأدنى"، كما جاء في عنوان كتاب عنها صدر في 1919.


"جامع الرصاص" رمزاً للسُلطة
كان بناء الجوامع خلال الحكم العثماني لألبانيا ــ الذي دام حوالي 500 سنة ــ يحمل فيما يحمل مظهر السلطة أيضاً. فقد انتشر في ألبانيا، كما في غيرها من البلاد المجاورة، النموذج العمراني العثماني الجديد، الذي وصل إلى ذروته مع المِعمار سنان (توفي عام 1588)، الذي خلّدته المنشآت التي بناها في البلقان (بما في ذلك العاصمة الأولى أدرنة) وفي الأناضول وبلاد الشام. فقد كانت هذه المنشآت المعمارية الفخمة تدلّ على سلطة مَن يقوم ببنائها (السلاطين والصدور العِظام والوزراء والولاة الأقوياء)، وكانت تتمثّل بشكل خاص في "الجوامع السلطانية"، وهي تختلف عن الجوامع الأخرى التي تعبّر عن العمارة البلقانية البسيطة. وفي هذا السياق، أصبحت منشآت المعمار سِنان تمثّل مدرسة في حد ذاتها يقوم باستلهامها أو تقليدها مَن جاء بعده من معماريين.

بُني "جامع الرصاص" في أقصى شمال ألبانيا عام 1773 حسب "النموذج السلطاني" أو "النموذج السِناني" للجوامع، الذي يدلّ على سلطة مَن قام ببنائه: محمد باشا بوشاتلي، الذي أصبح على رأس "باشوية شكودرا" التي تشمل ألبانيا الشمالية الحالية، والمؤسِّس لسلالة حاكمة استمرّت من 1757 وحتى 1831، عام إسقاط الجيش العثماني لهذا الكيان شبه المستقلّ.

وفي الواقع، شهد منتصف القرن الثامن عشر في البلقان تراجع السيطرة المركزية للسلطان وتعاظم نفوذ العائلات المحلّية التي أصبحت تفرض نفسها على رأس كيانات/ باشويات تحكم باسم السلطان شكلياً، وتسعى للاستقلال تدريجياً. ومن هنا، فقد سعى الحاكم الأوّل لهذا الكيان، محمد باشا بوشاتلي، قُبيل وفاته، إلى بناء هذا الجامع على نمط "الجوامع السلطانية" ليكون أكبر جامع بُني في ألبانيا خلال الحكم العثماني، وليدلّ على مكانته التي وصل إليها في ألبانيا الشمالية والتي اتخذ من شكودرا عاصمةً لها.

بُني ليكون يكون أكبر جامع في ألبانيا خلال الحكم العثماني

اختار محمد باشا، المتمركز في القلعة الحصينة في شكودرا ــ وهي قلعة تطلّ على بحيرة شكودرا التي تفصل الآن ألبانيا عن الجبل الأسود (مونتنغرو) ــ أن يُبنى جامعه الذي يفاخر به السلاطين في سفح القلعة، بالقرب من ملتقى أنهار درينا وبونا وكيري، وذلك قبل وفاته بسنة واحدة، كما يثبت ذلك النقش على الجامع، والذي يصف بانيه بأنه "سيّد الخيرات والأعمال الصالحة محمد باشا". لقد سعى محمد باشا بهذا الجامع المبني على "النمط السلطاني" إلى أن يفاخر كلّ مَن سبقه، حتى السلاطين الذين بنوا جوامع هنا، ببناء أكبر جامع في ألبانيا خلال الحكم العثماني، بل أحد أجمل الجوامع في العالم. 

حرص محمد باشا على أن يُبنى الجامع من الحجر الصلب، ولذلك اعتمد على سلسلة بشرية لنقل الأحجار اللازمة (من يد إلى يد) من مقلع "غوري إي ذي" القريب إلى الموقع، ليكون بذلك مقاوماً لتقلّبات الزمن. اشتهر الجامع باسم بانيه محمد باشا فترةً من الزمن، ولكن مع الوقت شاع اسمُه الشعبي: "جامع الرصاص"، نظراً لأن قُببه المميّزة كانت مغطّاة كلّها بالرصاص المذاب. ومع أنه نُسب أيضاً في أسلوب بنائه إلى المعمار سنان، إلّا أنه لو كان المعمار سنان حيّاً لكان قد احتاط أكثر في اختيار المكان المناسب لهذا الجامع الفخم. فبحكم قربه من الأنهار الثلاثة، كانت المياه تقترب منه في أوقات الفيضانات، وقد غمرته المياه بالفعل خلال الفيضان الكبير الذي حدث في 1865 وجعل أصحاب البيوت المحيطة به تهجر المحلّة.

الصورة
"جامع الرصاص" قبل هدْم مئذنته
"جامع الرصاص" قبل هدْم مئذنته

وبسبب هذه النكبة التي حلّت، قام بعض الأفراد بخلع الرصاص من قببه وبيعها في السوق، وهو ما تكرّر حتى الحرب العالمية الأولى حين قام الجيش النمساوي الذي احتلّ ألبانيا بخلع ما بقي من رصاص على القبب. ومع استقرار ألبانيا في حدودها الحالية بعد الحرب قام جلال باشا، حفيد محمد باشا، بترميم الجامع في عام 1920، إلّا أن هذا لم يوقف تمدّد مياه الفيضانات من الأنهار المجاورة من وقت إلى أخر، حتى هُجر الجامع.


جامع مهجور تحدّى الدولة الشيوعية
في أواخر الحرب العالمية الثانية تمكّن الحزب الشيوعي في ألبانيا من الوصول إلى السلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1944، ليعايش هذا الجامع محنة أخرى. وكان الحكم الشيوعي في بداياته يُظهر نوعاً من التسامح مع الدين ومنشآته الإسلامية والمسيحية، ولذلك اهتمّت الدولة بجامع محمد باشا وأعلنته "أثراً ثقافياً" في 1948، وقام معهد الآثار الثقافية لاحقاً بفرش قببه بالإسمنت عوضاً عن الرصاص المسروق. ولكنّ الصراع بين رؤوس الحزب (أنور خوجا ومحمد شيخو وغيرهما) كان يؤدّي إلى التطرّف في فهم وتطبيق الماركسية-اللينينية-الستالينية التي اشتُهرت بها ألبانيا ذات الغالبية المسلمة (70%). 

وهكذا، خلال التقارب مع الصين الماوية، اندفع أنور خوجا، بدءاً من 1965، إلى تحريض الشباب على "الثورة الثقافية" التي جرفت لاحقاً الجوامع ذات القيمة التاريخية، سواء بهدمها أو تحويلها إلى متاحف ومخازن. ومن ذلك طاول الهدم جامع محمد باشا في 1967 ليطيح بمئذنته الرشيقة، وهو فعلٌ كان يريد التخلص من الرمز الديني المميّز لتحويل الجامع إلى مخزن أو غير ذلك.

الصورة
الجامع كما يبدو اليوم من قلعة شكودرا المُجاورة (العربي الجديد)
الجامع كما يبدو اليوم من قلعة شكودرا المُجاورة (العربي الجديد)

كان ذلك العام خاصّاً بتطرّفه، بعد اندفاع "الجماهير" إلى هدم المعابد وقصّ لِحى رجال الدين "الذين لم تعد لهم حاجة" وإعلان ألبانيا "أوّل دولة إلحادية في التاريخ"، وحتى افتتاح أول "متحف للإلحاد" قرب الجامع في مدينة شكودرا. وكان من ضحايا العهد الجديد الشيخ صبري كوتشي (1921 ــ 2004) الذي حصّل علومه الشرعية في مدينة شكودرا التي كانت تشتهر بمدارسها وعلومها وأصبح إماماً في المدينة نفسها، ثم مفتياً في كافايا المجاورة لشكودرا. ولكن سرعان ما اعتُقل في  1966 وحُكم عليه بالسجن والأشغال الشاقّة مدّة 25 سنة، قضى منها أكثر من عشرين سنة، ليخرج في تشرين الأول/ أكتوبر 1986.

موقعه عند ملتقى ثلاثة أنهار جعله عرضة دائمة للفيضانات

مع خروجه كانت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية تهتزّ مع الربيع الذي طال انتظاره حتى وصل الدور أخيراً إلى ألبانيا. اختار الشيخ صبري يوم الجمعة 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1990 للتسلّل مع أتباعه باتجاه "جامع الرصاص" المهجور ليخلع الأقفال من أبوابه ويؤذّن لصلاة الجمعة دون أن يستأذن أحداً، لتدخل ألبانيا بذلك في مرحلة جديدة في الجمعة اللاحقة، وليُفتَتح مزيد من الجوامع للصلاة فيها. ولم يكتف الشيخ صبري بذلك، بل أحيا أيضاً "الجماعة الألبانية المسلمة"، التي تأسّست في 1921 وكانت تمثّل المسلمين أمام الدولة، ليصبح بذلك مفتي ألبانيا حتى وفاته.

مع كلّ هذه التطورات، كان كُلّ فيضان للأنهار يجعل سكّان شكودرا يفيضون ألماً على منظر "جامع الرصاص" والمياه تحيط به من كلّ جانب. وقد امتدت هذه الحالة ثلاثين سنة إلى أن تمّ الاتفاق بين الحكومتين الألبانية والتركية في 2021 على قيام "الوكالة التركية للتعاون والتنمية" (تيكا) بتنفيذ ترميم شامل للجامع يحافظ على مكوّناته الأصلية. وقد قام خبراء الوكالة بمعاينة المنطقة المحيطة أوّلاً للتوصّل إلى حلول تمنع مياه الفيضانات من الوصول إلى الجامع، ومن المأمول أن تنتهي أعمال الترميم في السنة القادمة، ليظهر "جامع الرصاص" بحلّته الجديدة ويُثبت أنه من أجمل الجوامع في العالم.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون