"آهٍ من الموت": شواهد القبور كمصدر للثقافة الجديدة في البلقان

"آهٍ من الموت": شواهد القبور كمصدر للثقافة الجديدة في البلقان

07 يوليو 2022
شواهد تُبرز مناصب ومكانة أصحابها قرب مسجد أيوب سلطان في إسطنبول (Getty)
+ الخط -

مع انتشار الإسلام في شبه جزيرة البلقان، إبّان الفتح العثماني التدريجي منذ منتصف القرن الرابع عشر وتأسيس أوّل عاصمة عثمانية فيه (أدرنة) في 1371، حمل الإسلام ثقافة جديدة إلى المنطقة كانت مطعّمة بملامح عثمانية جديدة في الحياة الروحية (الجوامع والتكايا)، وفي الحياة الثقافية (انتشار لغات جديدة لم تكن معروفة مع أدبها: العربية والفارسية والتركية)، وفي الحياة اليومية (البيوت والحمامات والخانات والمقاهي)، التي جعلت المدن الموجودة أو الجديدة تتشرّق أو تأخذ ملامح شرقية.

وكما هو الأمر مع ثقافة الحياة، برزت ثقافة جديدة تتعلق بالموت، وبالتحديد مع تقبّل المسلم للموت وما يليه من تجهيز الميت للدفن وما يصاحب ذلك من عادات جديدة في النعي والتعزية التي كانت تستمر أياماً وحتى أسابيع، حسب مكانة المتوفي. وسواء في المدن أو في القرى ــ حيث كانت تستمرّ أكثر، خاصّة خلال أيام الشتاء التي كان الثلج يغطي فيها الحقول ــ كانت التعزية تتّسم بمشاركة المعزّين في الحديث عن مختلف الشؤون لتخفيف الحزن عن أهل الميت والتحوّل نحو الحياة اليومية الطبيعية. وفي هذا السياق لدينا تطوّر مهمّ يتعلّق بالقبر الذي يُدفن فيه الميت، وبالتحديد الشاهدة التي توضع على قبره، والتي تدلّ على مكانته من حيث الطول والعرض ومظهرها الفنّي. ولا شكّ أن الأمر كان يختلف بين المدن والقرى، ولكن هذا الأمر خلق الحاجة إلى مِهنة جديدة تتعاطى النقش على الحجر حسب ما تمليه ثقافة أو مكانة أُسرة الفقيد، حيث يختلف ما يُنقش على الحجر من حالة إلى أخرى.

الصورة
شواهد عثمانية

ومع مرور القرون، أصبحت مقابر المسلمين جاذبة لنوع آخر من الزوّار، ألَا وهم الباحثون أو المؤرّخون الذين تنبّهوا إلى أهمّية الشواهد على القبور كمصدر غني للتاريخ الاجتماعي والثقافي، خاصّة مع ظهور خطر "التحديث" بعد نهاية الحكم العثماني الذي أصبح يجتاح المقابر ويحوّلها إلى ركام بحجّة توسيع الشوارع أو تشييد مبان عامة وحتى حدائق. ومع نقص المصادر أحياناً أصبحت شواهد القبور تزوّد الباحثين بأسماء الشخصيات المختلفة (حكّام إداريون وعسكريون وقضاة ومشايخ وأدباء وغيرهم). ولكن الشواهد في حد ذاتها كانت تحمل قيمة خاصة لما تتضمنه أحياناً من حكم أو من أشعار، كما تكشف عن اختلاف فن النقش وشكل الحجر حسب الشخصية وما تكون قد أوصت به. ويبدو أن العاملين في مهنة النقش كانوا يعرفون عدّة لغات (العربية والعثمانية واللغة المحلية) لأن شواهد القبور كانت تجمع غالباً بين هذه اللغات، وخاصة بين العربية والعثمانية، التي أصبحت معتمدة لشواهد القبور مع أن ما هو مكتوب على الشاهدة لم تكن قراءته سهلة أو ممكنة لأهل المتوفي.

حجار جامدة لكنها تقول الكثير عن الماضي الاجتماعي

ولا بد هنا من ذكر أنه مع تطوّر الدراسات العثمانية في يوغوسلافيا السابقة (1918 - 1991) تنبّه الباحث البوسني محمد موذنوفيتش (1913 - 1981) إلى أهمية النقوش والكتابات الموجودة على شواهد القبور ومداخل الجوامع والمنشآت الأخرى التي تعود للحكم العثماني الطويل، فكان الرائد في هذا المجال مع عشرات الدراسات التي نشرها، وخاصّة عمله المرجعي "الكتابات الإسلامية في البوسنة والهرسك" الذي صدر في ثلاثة مجلدات بين عامي 1974 و1982، وأصبح مرشداً لجيل كامل من الباحثين في هذا المجال.

الصورة
شواهد عثمانية

مع الشعور بالخطر من "التحديث"، بادرت "كلية الدراسات الإسلامية" في بريشتينا إلى تبنّي مشروع علمي لتوثيق شواهد القبور في كوسوفو، الذي أثمر حتى الآن عن ثلاثة مجلدات تحت عنوان "شواهد القبور في اللغة العثمانية"، كان آخرها قد صدر قبل أشهر (بريشتينا، 2021) وأعدّه الباحثان أغرون إسلامي وسليم سليمي. وكما يقول أغرون إسلامي في مقدمته، فإن شواهد القبور تبدو "أحجاراً جامدة ولكنها تنطق بمعطيات حيّة عن ماضينا". ويضم هذا المجلد 179 شاهدة تعود أقدمها إلى 1715، مما يدلّ على أن الإسلام انتشر أو استقر في وقت متأخر نسبياً بالمقارنة مع بعض المناطق.

ويؤكد إسلامي هنا على أهمية الشخصيات التي كشفت عنها هذه الشواهد، ومنها مؤسس أُسرة جين زاده أو جينولي أحمد بختيار بك ابن خسرف بك ميراخور، التي كان لها دور في تطور مدينة جيلان في شرق كوسوفو وغيرها. ويلاحظ هنا أن الشاهدة تكشف الألقاب العثمانية العالية التي حملها مؤسس الأسرة (ميراخور، أو مسؤول الإسطبل السلطاني) وابنه الذي نال البكوية، التي تعني أنه أصبح حاكماً إدارياً، كما أن بقية الشواهد تكشف عن أسماء عدد من أوائل المدرّسين في المنطقة (المدرس آدم أفندي والمدرس إبراهيم أفندي والمعلّم يونس وغيرهم).

في غياب الوثائق، تزوّد الشواهدُ الباحثين بأسماء بارزة

ومع أن المجلد الأول الذي صدر في 2017 أثار بعض الملاحظات، وأن فريق العمل قد تغيّر لاحقاً، إلّا أنه من الملاحظ في المجلد الثالث أن العمل في هذا المجال لا يزال يحتاج إلى مراجعة منهجية. فالعنوان يحمل إشكالية لأن حوالي نصف شواهد القبور هي في اللغة العربية، مع وجود كلمة أو كلمتين تركيتين من أصل عربي في نهايتها (روحنه أو روحيجون، أي الفاتحة لأجله)، كما توضح الشواهد المرفقة. أما النصف الآخر فهو في غالبيته يخلط المقدّمة العربية في النصف الأول مع اللغة العثمانية في النصف الثاني، على حين أن لدينا عدّة شواهد فقط في اللغة العثمانية مع كلمات عربية في رأس الشاهدة. ولذلك فإن العنوان الأنسب لمثل هذه الشواهد: "شواهد القبور في كوسوفو العثمانية"، أو "شواهد القبور الإسلامية في كوسوفو"، إذا أردنا استثناء القلّة القليلة التي تعود إلى ما بعد نهاية الحكم العثماني في 1912.

الصورة
شواهد عثمانية

وبالنظر في الصور المتقنة لكل الشواهد نجد أنه لدينا أوّلاً في رأس الشاهدة الرمز الذي يشير إلى جنس المتوفي، والذي هو العمامة أو الطربوش للرجال والزهرة للنساء، ثم لدينا العبارة التي تكون غالباً "هو الخلّاق الباقي" أو "هو" أو "الباقي" أو "هو المعين"، وأحياناً تأتي عبارات ملفتة للنظر مثل "آه من الموت"، سواء على شواهد الرجال أو النساء.

ولدينا في الشواهد مادّة غنية عن أسماء الرجال والنساء الشائعة في ذلك الوقت ومصدرها وتحولاتها. ويلاحظ هنا أن معظم الأسماء عربية، ولدينا قلّة تركية وشاهدة واحدة تعود إلى متوفية في 1956 باسم ألباني أصيل، أي بعد أن شاعت الكتابة في الألبانية على شواهد القبور. ومن الأسماء العربية الشائعة: أحمد وعلي وعباس وخالد ومصطفى وبكر ونوح وحسين ورجب وشعبان وحيدر وخضر وغيرها. أمّا عن أسماء النساء، فلدينا: حميدة وحنيفة وزاهدة ونظيفة وخديجة ومهدية وغيرها. ويلاحظ هنا أن لدينا أخطاء في نقش بعض هذه الأسماء، بتأثير النطق الألباني لها، مثل: رامضان، وحيدار، وحاميدة، إلخ، كما لدينا أخطاء في النقش تخلط بين المذكر والمؤنث، مثل: "المرحومة المغفورة المحتاج إلى ربه خديجة بنت مصطفى 1306هـ".

الصورة
شواهد عثمانية

ومن ناحية أخرى، نجد بعض الأسماء العربية غير الشائعة عند العرب مثل "كاهل"، كما أن بعض الأسماء تُختصر على عادة الألبان: فزين الدين يصبح "زينل" ومصلح الدين يصبح "موصلي". أما الأسماء التركية فقليلة، مثل: قورد ويشار وبيرم وفرهاد وبكطش، بينما لدينا أسماء تركية مشتقّة من العربية على نمط شاع لاحقاً بين العرب: عبدي وفضلي وفوزي وغيرها.

ومع أن مثل هذه الجهود جاءت متأخّرة بعد أن جُرف الكثير من مقابر المسلمين، إلا أنها تنبّه إلى أهمية مثل هذه الأبحاث التي تكشف عما هو مشترك في ثقافة الموت عند المسلمين، وعما هو مختلف بين البلدان التي خضعت لحكم دول مختلفة في المجال العثماني السابق الممتدّ من اليمن إلى البوسنة.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون