"المكتبة الشرقية" لـ بارتيلمي دو هربيلو: في جذور الاستشراق

"المكتبة الشرقية" لـ بارتيلمي دو هربيلو: في جذور الاستشراق

01 يونيو 2022
منظر عام لحي ريشيلو، حيث تقع المكتبة الملكية (رسم لـ آدم بيرل، نهايات القرن 17، Getty)
+ الخط -

"المكتبة الشّرقيّة" عنوان أحد أقدم المُؤلّفات الفرنسية عن العالم العربي. وكما جرت عليه عادة الموسوعيّين، أكّد بارتيليمي دو هربيلو (1611 - 1698)، في العنوان الفرعيّ، أنّ هذه المكتبة تشمل كلَّ ما يتّصل بـ "شُعوب الشّرق وتاريخهم وعاداتهم الحقيقية والمُتوهَّمة، وما ظهر فيه من الأديان والفِرق والسّياسات والعلوم والفنون وآثار كُتّابهم، بالإضافة إلى أحكام نقديّة ونماذج من أعمالهم، من خلال التنقيب في المؤلّفات المكتوبة بِاللغات العربية والفارسية والتركية". 

صدرت "المكتبة" سفرًا فاخرًا، مُذهّب الأوراق، جميل الطباعة، صيغَت كمنتجٍ فنّيّ يتألّف من (994 صفحة)، مع مُلحَق بـ 300 صفحة أُخرى، استخلص منها تلميذُه أنطوان غالون (1646 - 1715) كلَّ ما يتّصل بالصّين في علاقتها بالعالَم الإسلاميّ، ولا سيّما ما ذَكَره المؤرّخون والرّحّالة العرب والمسلمون عنها، وهي معلومات جَمعها بعد أربع سنوات من الطبعة الأولى. 

وقد اعتمد المُؤلّف دو هربيلو بشكلٍ كبيرٍ على المخطوطات النفيسة الكائنة في "المكتبة المَلكيّة" بحيّ ريشيلو (باريس)، والتي صار اسمها اليوم: "المكتبة الوطنيّة". ولا تزال هذه المخطوطات في نفس مكانها، محفوظةً بأحدث وسائل الصّيانة والترميم ويمكن للباحثين الاطّلاع عليها. ولا شكّ أنّ عددها كان ضعيفًا حتى سنة 1676، وأنّ ما أُضيف إليها بعد حملة نابليون على مِصر (1798 - 1801) كان ضخمًا.

أرسى قواعد المنهج العلمي لكن تأريخه لم يكن محايداً

وقد خُتم هذا الكتاب بملاحق عديدة تُيسّر الاطلاعَ على مداخله، ومنها قائمة بأهمّ الكُتّاب الذين ذُكروا طَيّها، رُتّبت أسماؤهم حسب النسق الأبجديّ إلى جانب لائحةٍ بالمُصطلحات الواردة فيه. وهذه الطريقة من أولى المظاهر في الدرس المنهجيّ لآثار القدماء، وقد يكون استفادَها ممّا كان سائدًا لدى "الموسوعيّين". كما تَتضمّن المداخل نظام إحالات إلى الموادّ الأُخرى الشبيهة داخل "المكتبة"، بما أنّ مقالاتها يُحيل بعضُها على بعضٍ، وهذا أيضا من مظاهر تَجويد التأليف المعجمي، بحيث يبدو الكتاب كتلةً واحدة، آخذًا بَعضُها برقاب بعض.

كما أَلحق الكاتب بعض الحِكَم والرّوائع وجوامع الكَلم ضمن فَصلٍ أخيرٍ، رصّعه بعدد هامٍّ من النوادر والطّرائف والمُلح، التي كان يترجمها ويصوغها بقلمه مضيفًا إليها ملاحظات توضيحيّة يَشرح من خلالها النكتة التي غالبًا ما تَندرج ضمن الإشارة الثقافيّة التي يحتاج إلى معرفتها قارئ القرن الثامن عشر، والذي يجهل تقريبًا كلَّ شيء عن الإسلام والمسلمين. وقد يكون هذا الشّغف بالقصص والحِكَم نابعًا من اعتبار الشرق، رغم الاختلاف الجذريّ معه، مصدرَ الحكمة والصفاء الروحيّ ولكن بالمَعنى المسيحيّ للكلمة. 

الصورة
غلاف الكتاب

ولذلك، تَضمّن الكتاب العديد من المَعلومات عن عادات اليهود والمسيحيين الذين كانوا يعيشون في الشّرق، إبّان القُرون الوسطى، وعن نمط حياتهم وتقاليدهم وكتبهم وممارساتهم وشعائرهم. وقد كانت تربطُ هؤلاء، منذ تلك الحقبة التاريخيّة، صلاتٌ وثيقة بفرنسا، بوصفها الأخت الكبرى للكنيسة، وبوصفها حامية تلك الأقليّات التي كانت تعيش في سلام تحت ظلّ الإمبراطورية العثمانيّة، ومع ذلك، نَظَرَ إليهم دو هربيلو كجماعات مُضطَهدة، ممنوعة من أداء طقوسها. وفي هذا تجنٍّ على الحقيقة التاريخيّة. ولا بدّ من تمحيص هذه المعلومات اليومَ لإعادة رسم ذلك التاريخ والوقوف على تفاصيله الخبيئة. 

من الناحية التاريخيّة، يتضمّن هذا المعجم كمًّا هائلًا من التفاصيل التي تتعلّق بعددٍ من الوزراء والموظّفين والقادة العسكريّين والأمراء الذين عملوا في ظلّ الحكم العثمانيّ، إبّان القرن السابع عشر، وقد يكون دي هربيلو قد عاصَر جُلَّهَم فَكتب عنهم، ربّما انطلاقًا من معرفته الشخصيّة بهم، بسبب كثرة أسفاره وسَفَاراته التي أنجزها في أقطار السَّلطنة وأوروبا. فلهذه الشهادات التي تهمّ رجالات ذلك العصر قيمة تاريخيّة لا تُجحَد.

تناقضت أحكامه بين الوصف الحيادي والتقييم الذاتي

ومن بين المداخل المفيدة تلك التي خصَّصها لمضامين الكُتب العربيّة، على اختلاف مشاربها واختصاصاتها، معتمدًا في ذلك على تاريخ "كشّاف اصطلاحات العلوم" للتهانوي وعلى النُّسخ الموجودة في "المكتبة الملكيّة"، بباريس، وعلى ما عاينه في أسفاره، مقدّمًا نبذًا قصيرة عن محتوياتها، مُسجّلًا بذلك لمستوى المعرفة التي توصّلت إليها أوروبّا المَسيحية آنذاك عن الإسلام والمسلمين. 

هذا وقد قدّم المستعرب الفرنسيّ هنري لورانس (1954) تصنيفًا شاملًا لموضوعات "المَكتبة" (1978) التي تغطّي ثمانيةَ محاور كبرى هي؛ السِّير المقتضبة المخصّصَة لرجالات هذه الحضارة، وتقديماتٍ مختصرة للكتب، ثم الثقافة التي تناول مداخلها بشيء من الإطالة معتمدًا على مصادر ثريّة ومتنوّعة، اللغويات وهي قصيرة تتعلّق بالمُصطلحات وتقرب إلى معجم مزدوج فرنسي - عربي، ثم مداخل الحضارة والدّين الإسلامي اللذين يمّثلان مراكز الاهتمام الأساسيّة، وأخيرًا التاريخ والجغرافيا الطبيعيّة والبشريّة. 

ونلاحظ اختلافًا جوهريًّا في التعاطي وأسلوب الكتابة، فالمداخل الخاصّة بالجغرافيا والتاريخ وصفيّة تستعيد الحدَث في حيادٍ، في حين أنّ مَقولات الإسلام خضعت لأحكامه الذاتية وتقييماته الشخصيّة المتأثّرة بعقائده. وقد بيّن المؤرّخ الفرنسي هنري لورانس أنّ هذه المدوّنة الضخمة تعكس التّصوّر الحالم والمندهش بِالشرق، قارنًا إيّاه بالعطور والشهوانيّة، إلى جانب تضادّ كامل مع بعض مبادئ الدين الإسلامي الذي كان يُقرأُ من خلال الشبكة المسيحيّة. ولذلك تحتوي العديد من الموادّ على شيءٍ من الخَلط وعدم الدقّة، وهي مآخذ لم يرتكبها دو هربيلو عمدًا، وإنّما بسبب المصادر المخطوطة التي اعتمد عليها أو النقل الشفويّ الذي لَجأ إليه. وفي المقابل، نَجد مَعلومات وثيقة وأصيلة لا توجد في غيرها من الموسوعات، ولا سيّما ما كان متّصلًا بالأحداث والشخصيّات التاريخية التي عاصرها في القرن السابع عشر. 

اعتمادُه على النقل الشفوي أفقده الدّقة وأوقعه في الخلط

وهكذا، فالمفارقة الكبرى تكمن في هذا الازدواج بين الشرق وأخباره، فمن جهة أُولى، أظهر الرّجل عناية بكلّ شاردةٍ وواردة، تتعلق بهذا الشّرق الفسيح. ومن جهة ثانيةٍ، يَكشف خطابه عن عداءٍ كامنٍ للإسلام ولرموزه الأساسيّة كالقرآن والسّيرة النبويّة وعقائد التوحيد، حيث كان يتناولها باعتبارها بدعةً وافتراءً. إذ كان ينظر إلى المبادئ الكلاميّة والفقهيّة من زاوية الخلاف الديني والتعصّب المَذهبي، ومنه كان يتوجّه إلى مثقّفي عصره، وجلّهم من رجال الكنيسة وهم القلّة ممّن أُتيحت لهم فرصة القراءة والتعلُّم. فقد استجاب لآفاق انتظارهم وتبعت تعريفاتُه وتعليقاته هذا العداء المتأصّل، ولم تكن كتابته كتابة المؤرّخ المُحايد، بل كتابَة العبد المطيع للملك، بما هو "حامي الكنيسة" والمُدافع عن عقائدها. ولا ننسى أنّ منظوره منبثقٌ من الإيمان الكاثوليكي في نسخته التي كانت وقتها حاملة لذكرى الحروب الصليبيّة والصراعات التاريخية بين الإمبراطورية العثمانية وبعض الدول المسيحيّة. 

ولعلّ ما يفسّر هذه الازدواجية رغبة هؤلاء المستشرقين، ومن ورائهم أجهزة الدولة التي يعملون تحت إمرتها، في مراقبة العالم الإسلامي آنذاك، فهي معرفة بهدف الهيمنة والنفوذ لا بغاية الفهم الموضوعي. إذ كان من أهدافها التي تحقّقت فيما بعدُ، بسط النفوذ الفرنسي على مناطق الإسلام، وأولاها مصر بعد حملة نابليون، وإثرها الجزائر، ضمن منطق الاستشراق المُمهِّد للحركة الاستعماريّة. وفي المقابل، أرسى الكاتب قواعد المنهج العلميّ في دراسة الشرق، قارنًا إيّاها بالأسلوب الأدبي، مع احترام قواعد الإحاطة والشّمول والوصف، مما أفضى به إلى خلق موضوع كامل هو ما سيصبح، إبّان القرون التي تلت هذا العَمل، "الاستشراق" أو "الإسلاميات التطبيقيّة".

ولذلك ثمّة عملٌ جبّار ينتظر الباحثين الشبّان: التحقّق من كلّ المعلومات الواردة في كل مَدخلٍ على حدة، حيث لاحظنا وجود العديد من الأخطاء، بعضها ناتج عن التعصّب الدّيني، وجلها نابعٌ من شحّ المعلومات وتداخلها وغيابها نظرا إلى العدد المحدود من المخطوطات المتوفّرة وقتها، وإلى أخطاء النسّاخ وعدم تطور المنهج الفيلولوجي الذي سمح، خلال القرن الماضي وقبله، بتصحيح كثير من الأخطاء. ولعلّ نسخةً محقّقة ومُعلّقًا عليها نقديًّا حول محور ما مثلًا؛ القرآن أو السّيرة النبوية أو الفقه أو علم الكلام، كفيلة بأن تكون عملًا يُبدأ به حتى يُصار بالتدرّج إلى المراجعة الشاملة لكلّ المداخل ومعالجة المفاهيم الدينيّة والعلميّة التي تحكّمت في مثل هذا النمط من التأليف، لا سيّما أنّه أثَّر في أجيال المستشرقين الذين جاؤوا من بعده. ولعلَّ هذه الأخطاء هي السبب الذي تولّدت عنه الكثير من التوتّرات وسوء الفهم.


*كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون