صدر قديماً: بنت الشاطئ وتراثنا.. أربعة تنبيهات منسية

صدر قديماً: بنت الشاطئ وتراثنا.. أربعة تنبيهات منسية

23 سبتمبر 2017
(بنت الشاطئ تتوسط توفيق الحكيم وأم كلثوم)
+ الخط -

مهمة تلك القضايا الأربع التي أشارت إليها قبل ما يقارب نصف قرن عائشة عبد الرحمن، المعروفة بلقب بنت الشاطئ (1913- 1998)، ولا تزال تحتفظ بأهميتها لسببين، الأول أنها مقاربة تؤكد الامتداد الزمني الغارق في القدم لـالتراث العربي، الذي يتجاوز العمق التقليدي مكاناً وزماناً، ولو وجدت هذه القضية صدى لأغنت الدراسات النقدية العربية، وأخرجتها من آفاقها الضيقة المحشورة بين تراث جاهلي فأموي فعباسي فأندلسي.

والثاني أن ملحوظتها حول الفهم القاصر والمحدود لتراثنا، والتحذير من خطر تغييب ما ترك أسلافنا من ثمار عقولهم في مختلف الفروع المعرفية، مثل الطب والعقاقير والفلسفة والرياضيات والفلك..إلخ، ما زالا ماثلين، والخطر يتجسّد في ما نراه من اختزال لتراثنا كما كان في أيامها، في لغة وبلاغة وأدب وعقيدة إسلامية وشريعة وتاريخ، بل ووصل اختزاله في أيامنا هذه إلى "تراث" غير عقلاني محوره اختراع ذرائع لقتل الإنسان أيا كانت جنسيته وديانته ولون بشرته.

جاء التنبيه على هذه القضايا الأربع، خلال محاضرات ألقتها على طلبة "معهد البحوث والدراسات العربية" في عام 1968، قبل أن تصدر في كتاب بعنوان "تراثنا بين ماضٍ وحاضر" صدر في العام نفسه. تعددت هذه المحاضرات وتنوّعت، بدءاً من المدخل الخاص بوجودنا بين القديم والجديد، والفصل الخاص بتراثنا من قديمه إلى عصر الحضارة الإسلامية، ففصل عنوانه محنة تراثنا من الغزو الصليبي إلى عصور الظلام، وصولا إلى تراثنا من فجر اليقظة إلى العصر الحاضر، وتقديم ما يشبه تقريرين الأول عن أول مؤتمر للكتاب الآسيويين والأفريقيين في طشقند (1958)، والثاني عن مؤتمر المستشرقين الدولي في نيودلهي في دورته السادسة والعشرين (1964).

هذا الكتاب لا يعد كتاباً تراثياً كما قد يتبادر إلى الذهن، بل هو كتاب موضوعه التراث، وزوايا التناول مهمة كما تشير عناوين الفصول، وكما تشير على وجه الخصوص هذه القضايا الأربع التي تجتذب النظر.

القضية الأولى تتمثل في انتباه عائشة عبد الرحمن إلى العمق التاريخي للموروث العربي، حيث تقول: "إذا كانت مهمة التراث الكشف عن جذورنا وعناصر أصالتنا وأسرار ذاتنا، لكي يقدّم الأساس الراسخ لوجودنا الحاضر والمقبل، فيجب أن يتأصل الإدراك بأن تراث الأمة لا يقف عند بداية التاريخ الإسلامي، وإنما يمتدّ مع ماضيها إلى ما قبل ذلك موغلاً في أعماق الزمن. فماضي كل الشعوب التي أسلمت أو تعرّبت هو ماضي هذه الأمة، وكل الحضارات الفكرية والمادية التي ازدهرت في أرض وطننا هي في الواقع التاريخي ميراثنا جميعاً".

وتضيف "من غير الجائز الوقوف بالتراث عند حد زمني أو مكاني يحصره في نصوص الأدب الجاهلي وذخائر علوم العربية والتاريخ الإسلامي، لأن أبعاده تمتد فتستوعب التراث القديم لكل أقطار وطننا على امتداد الزمان والمكان.. فيدخل فيه مثل نصوص البردي المصرية، كما تدخل فيه النصوص التي كشفت عنها الحفريات الأثرية في بابل وآشور واليمن والمغرب العربي الأفريقي، من حيث هي مادة تاريخية لماضي هذه الأمة الواحدة، يأخذ مكانه مع تراثها المشترك منذ العصر الجاهلي، وتراثها الحي من التاريخ الإسلامي، إذ تتماحى الحدود والفواصل، ونلتقي فكراً وروحاً ومزاجاً ولساناً ووجداناً، ونتحد وجوداً ومصيراً".

ولتزيل غرابة هذا المفهوم الشامل لتراثنا، تشير إلى "أن هذا المفهوم لم يكن غريباً في القرون الإسلامية الأولى حين كانت أمتنا في أوج قوتها.. في تلك القرون اتسع أفقها الرحب لهذا الشمول.. إذ لم تقف حركة إحياء التراث عند آثار الجاهلية وعلوم العربية والإسلام، بل نشطت إلى جانبها حركة تعريب تراث شعوب الدولة الإسلامية الكبرى العلمي، واتسعت فاستوعبت تراث اليونان.. في ضوء وعي بما سبقته من حضارات شرقية بدأ منها وليس من الصفر (حضارة وادي النيل ووادي الرافدين والهند)، فكان هذا الشمول مظهراً لوعي الأمة لذاتها". أي كانت ثقافتها تمثل أفقاً لا حيزاً.

القضية الثانية التي نبّهت إليها، تتمظهر في شقين، الأول "انشغال الكتاب والنقاد الذين يسيطرون على مراكز التوجيه للوجدان القومي والفكر العام بالبضاعة الحاضرة، وتحرّجهم من الالتفات إلى التراث، معتذرين بأنهم إنما يعيشون يومهم ويعانون مشكلات واقعه، ويغيب فهم أن حاضرنا مشحون بما يحمل من ميراث هذا الماضي الذي تكمن في أعماقه جذور ذواتنا".

والثاني "حين يذكر التراث، يتجه القصد منه غالباً، إلى نطاق محدود يحصره في قديم المخطوطات من علوم العربية والإسلام، فهنا وهناك توجه عناية قلت أو كثرت إلى خدمة تراثنا وإحيائه، فإذا كل ما يُنشر منه أو أكثره، لا يعدو ذخائر العربية؛ لغة وبلاغة وأدباً، والإسلام عقيدة وشريعة وفلسفة وتاريخاً". وما تخشاه هو "أن يرسخ فينا هذا الفهم القاصر والمحدود لتراثنا، فيغيب عنا أول ما يغيب؛ أن تراثنا يستوعب، إلى جانب ذلك كله، ما ترك أسلافنا من ثمار عقولهم في مختلف فروع المعرفة وميادين العلم".

في ضوء حاضرنا الراهن، يبدو هذا التحذير من الفهم القاصر وغياب ثمار العقول، والعلمية منها بخاصة، أشبه بالنبوءة، ونظرة سريعة إلى عناوين الكتب المطبوعة ومحاور المنتديات في أيامنا هذه تؤكد أن ما خشيته عائشة عبد الرحمن قد تحقق على كل صعيد، مع تكاثر العناكب السوداء التي تنسج شباكها وتحجب أي التماعة فكرية أو نبضة حية في ماضي هذه الأمة وحاضرها.

القضية الثالثة المهمة في هذا السياق هي التنبيه على تقاليد العناية بالمكتبات التي رافقت أطواراً حضارية عربية بارزة، وهي تقاليد تتضاءل أمامها عناية العصور العربية الحديثة ومكتباتها. من ذلك مكتبة "بيت الحكمة" في بغداد، وريثة ما كان يدعى في العصور البابلية والآشورية "بيت الألواح".

فبعد أن ضاقت دار الخلافة بما تجمع فيها من مخطوطات، أخرجها هارون الرشيد (766- 819) إلى دار رحبة بناها، وازدهرت هذه الدار في عهد المأمون، وظلت قائمة مفتوحة للعلماء وعامة الناس حتى القرن الثالث عشر، ثم تبدّدت مع سقوط بغداد بيد الغزاة المغول وحلفائهم. والمكتبة الثانية كانت مكتبة العزيز بالله الفاطمي (955- 996) التي أنشأها في القرن العاشر الميلادي، وضمت حسب بعض الروايات أكثر من مليون كتاب مخطوط، وتبددت أيضاً مع سقوط دولة الفاطميين، بين كتب تم نقلها وأخرى تم بيعها، وأخرى وهبت للراغبين فيها.

والمكتبة الثالثة البارزة كانت مكتبة الحكم الثاني (915- 976) تاسع أمراء الدولة الأموية في الأندلس، وبدأ تأسيسها في أيام والده عبد الرحمن الناصر، وجمع فيها كتباً من كل الأقطار، ولكن بعد وفاته استولى على السلطة حاجبه المنصور بن أبي عامر، فأحرق وطمر في الآبار معظم كتبها، وخاصة كتب الفلسفة والعلوم الطبيعية.

وأخيراً، تتخذ قضية التراث البحري المجهول في الثقافة العربية أهمية بالغة، وجاء تنبيه عائشة عبد الرحمن إلى هذا التراث توجيهاً للأنظار نحو تراث حضاري غني مزدهر في شؤون الملاحة البحرية. جاءت إشارتها إلى هذا التراث البحري نتيجة لاطلاعها على اهتمام مستشرقين ومستعربين به، أو بتآليف أحمد بن ماجد في علم البحار، فكانت إشارة مضيئة ونادرة قبل نصف قرن، في وقت كان فيه هذا الجانب من التاريخ الجغرافي مجهولاً على صعيد عربي، انسجاماً مع الجهل المطبق لدى العرب بهذا الجانب من تراثهم، بالإضافة إلى جوانب أخرى ستكشف عنها شيئاً فشيئاً دراسات آثارية، لغوية ومعمارية وفنية وموسيقية، عن صلاتهم بجغرافية ثقافة عربية أوسع مما هو شائع، لا تزال بعيدة عن إدراك الأوساط المثقفة وغير المثقفة على حد سواء، حتى بعد أن نبّه إليها هذا الكتاب قبل نحو نصف قرن كما أسلفنا.

دلالات

المساهمون