"الفقيه والسلطان".. تأريخ ضد التعالي على الواقع

"الفقيه والسلطان".. تأريخ ضد التعالي على الواقع

31 يوليو 2015
(السلطان وجيشه في منمنمة عثمانية)
+ الخط -

في السنوات الأخيرة التي أعقبت الانفجارات الثورية في عديد البلدان العربيّة، انسحبت العلاقة بين الدين والسياسة من حيّز النظري إلى العملي في غير سياق وفي غير موضع.

تبدو من أشد العلاقات تعقيداً وحساسية لدى المجتمعات في تحوّلاتها، سواءً في مستواها التاريخي المحمول، غالباً، على التنزيه والتعرية، أو في مستواها الراهن المشغول بالاستعادة المفاهيميّة.

من هنا تأتي أهمية كتاب "الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسية في تجربتين تاريخيتين، العثمانية والصفوية-القاجارية" للمؤرخ اللبناني وجيه كوثراني، حيث أعاد "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" إصداره هذا العام في طبعة رابعة (صدرت طبعته الأولى عام 1989).

في كتابه، يركّز كوثراني على تحقيق المقاربة (الفقهية/ السلطانيّة) بين التجربتين: العثمانية والصفوية، إذ يرفعهما إلى مصافّ المعادل الموضوعي في الواقع والمفهوم. فيعتبر نظرية "الخلافة" عند السنّة مكافأة في واقعها ومعادلة في موضوعها لنظرية "الولاية المعصومة" عند الشيعة. ليذهب بعدها إلى التدليل على "الثماثل والتماهي" بين شاهات إيران (الصفويون القاجاريون) وسلاطين آل عثمان.

وبذلك تُركّب المقاربة -وكأنّ مسرحها يقع في قلب ما يجري اليوم- بانوراما الاستقطاب الطائفي في المنطقة. فالاحتراب والتأويل السائد الذي يفيض عن الجغرافيا وألوان المذهبة، يستمد تأصيله من المخزون العثماني-الصفوي.

ينفي الكاتب انحسار الصراع العثماني-الصفوي في قنوات التأليف العلمي النظري، أو في ثنائية الصراع الشيعي-السني البحت، مفسّراً صورة المسلمين عن ماضي دولهم الإسلامية الأخيرة التي انتسبت إلى الشريعة الإسلامية، وتبادل المواقع بين القوتين السياستين النقيضتين، واتخاذ كل منهما لبوساً طائفياً، إضافة إلى نشوء الدول الإقليمية مع انتهاء عصرهما.

وعن تحوّل "الخلافة" إلى "مُلك"، يتناول كوثراني مسألة التأصيل منذ العهود الأولى التي حصل فيها الانفصال عن العهد الإسلامي الأول، وبداية تشكّل البناء السلطاني للدولة.

هنا يشدّد الباحث على أنّ "تاريخ الدولة الغالب في الإسلام هو تاريخ الدولة السلطانيّة لا تاريخ دولة الخلافة"، محذّراً من التعالي على "التاريخ والواقع" والمسارعة إلى نفي الخلاف والصراعات السياسية التاريخية باسم "التوحيد" أو "الوسطية".

إنّ إحلال مصطلح "السلطان"، مكان مصطلح "الخليفة" في العصر موضع البحث، وغياب الخليفة ثمّ الحرص على استعادته -كيفما اتفق- تبعاً لمصالح سياسية تاريخيّة، يجعل من هامش "التشويه التبسيطي" متناً محمولاً على أشكال من الحنين الهشّ والاستذكار الانتقائي.

أمّا في خلاصاته الختاميّة، فيتناول كوثراني أطروحات الكواكبي "في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي بنى عليها محمد حسين النائيني في إيران، تنظيره في الفقه الدستوري.

وقع خيار كوثراني على هذه الحقبة (نهاية القرن التاسع عشر)، وعلى هاتين الدولتين العثمانية والصفوية بالنظر إلى أنهما آخر دولتين اشتركتا في إعلان الشريعة نظام حكم لهما، ورغم ذلك نشأت بينهما صراعات سياسية استخدمت الأبعاد المذهبية في تأجيجها.

المساهمون