العالم يتشكل من جديد

العالم يتشكل من جديد

13 مايو 2020
+ الخط -
مثل نطفة في ظلمات الرحم يتشكل العالم الآن، فكما تلك النطفة تمر من أطوار كذلك هو الحال بالنسبة للعالم المحجور اليوم في ظلمات البيوت في زمن كورونا، وبعدما تأتي ساعة الفرج سيولد طفلاً وتبدأ حياته من جديد. فرق بسيط هو أن العالم الطفل سيولد وفي دماغه تجارب بها سيواجه الحياة المقبلة.

وفي انتظار الفرج والخروج إلى زحمة الحياة المفتقدة، يحق لنا ونحن في حجرنا الصحي أن نتلهى بمجموعة أسئلة من قبيل، من كان يعتقد أن العالم سيعود إلى الوراء، وتتوقف روحه المحمومة إلى اختراق المستقبل؟ من كان يعتقد أن الناس سيقبلون بأن يسجنوا في بيوتهم بعدما ناضلوا طويلا من أجل حريتهم واختياراتهم الفردية؟ من كان يتوقع أن هذا المواطن الذي دافع بشراسة وعلى مدى قرون لكي يتخلص من وصاية الدولة ورقابتها، سيقبل أن يمد عنقه إليها بهدوء ويقول لها ضعي الحبل في عنقي وافعلي بي ما تشائين؟ وسأكون لك عبدا مطيعا إن قلت لي ادخل، أدخل وألزم بيتي، ولا أخرج منه إلا بإذنك.

أعتقد أن لا أحد كانت ستتبادر إليه مثل هذه الأسئلة، وسيعتبرها نوعا من التفاهة، في زمن كانت السرعة في أقصاها والوقت يتهدد الكسالى بسيفه، والكل كان مشغولا بترتيب نفسه وجمع عدته وعديده من أجل الانقذاف في مجتمعات ما بعد الحداثة وعالم مجتمعات المدن الذكية، التي كان يتم بناؤها في مخيلات العلماء. لقد كان العالم على شبه يقين بأن قطاره على مرمى حجر من الوصول إلى هدفه، لكن فجأة يصيبه عطل ويتوقف.

فهل كان لا بد من يضربنا على رؤوسنا لنسترجع وعينا ونستفيق من أحلامنا، ونفكر بعقولنا وبشكل واقعي في حياتنا اليوم وغدا دون مبالغات؟ وهل كان من الضروري أن تكون ضربة الفأس بهذه القوة كي نعرف أن ما بنيناه مجرد أوهام اهتز لها كياننا مع أول امتحان؟ لقد استفقنا كي نتأمل في واقع البيئة والفوارق الاجتماعية، والمنظومة الأساسية للقيم الإنسانية، ومصير هذه الأرض والحضارة البشرية التي باتت على فوهات مدفع. منذ زمن كتب الشاعر العالمي الشهير توماس إليوت في إحدى رباعياته: "صحتنا الوحيدة هي المرض.. الأرض بأجمعها مستشفانا/ يرعاها المليونير المفلس"، أفما آن لهذا المليونير المفلس أن يستفيق من سكرته ويكف عن الدوس على جثتنا لاستعادة ثروته المقصوصة من لحمنا قطعة قطعة؟ فمن يداوينا الآن أو يحفر لمن مات منا قبرا محترما ويقيم له جنازة تليق به.. لا أحد، الكل خائف.


من كان يتوقع أن هذا الإنسان المجنون بعظمته سيصل في يوم من الأيام إلى الباب المسدود ويضع مفاتيحه على الطاولة، ويقول سننتظر فقط عون السماء. أعتى الفلاسفة ذوو النزعة التشاؤمية ما كانوا يتصورون مثل هذا السيناريو الذي أصبح يعيش العالم أحداثه اليوم. بل كذلك أولئك المخرجون المجانين الذين سفرونا معهم في أفلام الخيال العلمي الجامح إلى عوالم خارج الزمان والمكان، لم يفكروا في هذا الفيلم المرعب الذي بتنا نعيش أطواره يوما بعد يوم، ونحن نشد على قلوبنا من الخوف، لو خطر ذلك على بالهم لحذرونا منه وأعددنا له العدة قبل وقوع الكارثة.. هناك سيناريوهات كثيرة كان يمكن أن نتوقعها، لكن أن تتوقف الأنشطة الإنسانية وتتجمد حركات الناس، وتغلق الحدود فيما بين الدول وتربض الطائرات في مطارتها، تاركة مساحات السماء الفسيحة فقط للطيور تصول فيها وتجول، فهذا ما لم يتوقعه أحد.

وماذا بعد؟ ضربة المقص وقعت، ولن يعود العالم كما كان، كما يتفق المحللون، لكن بأي صورة؟ كثيرون يرسمون صورة غير وردية للعالم فيما بعد كورونا، إنهم يتوقعون أن يعرف تراجعا مخيفا على كافة المستويات، فأمام واقع الاستثناء الذي فرض على خلفية مواجهة الوباء سيكون من الصعب الرجوع إلى السكة القديمة، فتوابع كثيرة ستترتب على ذلك، وبعد الحجر سيكون الظرف ملائما أكثر لفرضها على أرض الواقع بدعوى الاحتراز من عودة الشبح والانتكاسات، إذن السلوك الإنساني سيتغير، والرقابة ستشتد، وسنضطر إلى التعايش مع الوباء، وحمل الكمامات، وحسب خطواتنا، وكلماتنا بدقة، فنحن لن نعود كما كنا أحرارا في عالم الواقع والعالم الافتراضي.. كثيرة هي الأشياء التي ستتغير.

من جهة أخرى إنه وفي الوقت الذي سيسعى المواطنون في مختلف الدول عبر ربوع العالم إلى واقع أكثر أماناً واطمئناناً ستجد شرائح اجتماعية كبيرة نفسها أمام واقع مختلف يفرض عليها الرضا بما تقدمه لها الحكومات، بل إنها وحسب كثير من المحللين فإن المواطنين عبر العالم سيجدون أنفسهم مضطرين للتنازل عن مكتسبات وعادات كثيرة من زمن الرفاه، للتعايش مع واقع تنخفض فيه مستويات المعيشة، وتزداد فيه الضرائب، وتتقلص النفقات العمومية، وهذا عكس ما كان يتوقعه المواطنون الذين كانوا ينتظرون جنة عدن بعد "الحرب" التي كان وصف بها قادة سياسيون المواجهة مع كورونا. وهكذا ستجد الشعوب أن ما توقعته من مكافآت من حكوماتها لما أبانت عنه من حسن السيرة والانضباط والتضامن لن يكون سوى مجرد سراب.

ويذهب محللون آخرون إلى أن كواهل المواطنين سيزاد حملها، وستستعمل كل الذرائع لاستغلال الشعوب، ويدللون على ذلك بأنه عادة ما يكون زمن ما بعد الكوارث هو فرصة ثمينة لفرض واقع الاستغلال. إن أهل الاقتصاد والسياسة بعد كورونا ستكون شهيتهم للافتراس في أعلى درجاتها، وذلك من أجل تعويض الخسائر واستدراك ما فات، من خلال الرفع من وتيرة الإنتاج وإعادة تدوير عجلة الاقتصاد.

إذا كانت الوباء قد أعادنا إلى مكاننا الطبيعي، وجعلنا نعرف قدرنا ومن نكون، بعدما كنا اعتقدنا أننا تفوقنا على كل شيء، وصارت أمراضنا ذكرى من الماضي، فإنه جعلنا أكثر من ذلك نعود إلى نقطة الصفر، كما كان قديما حينما كانت الأمراض تهجم وتحصد الملايين، لقد شعر البشر بالعجز.. وهذا ومن دون شك، سيدفعهم إلى صياغة تفكيرهم من جديد وبناء فلسفاتهم التي كانت توغلت كثيرا في تجريدها وأسئلتها. فكما كانت حوادث كبرى عرفها العالم كالحرب العالمية الأولى والثانية، وزلزال لشبونة الشهير، أعادت توجيه بوصلة التفكير الإنساني، فمن المؤكد أن كورونا سيكون له أكبر التأثير على التفكير والتفلسف الإنساني، وعلى الفنون والآداب بكل أجناسها وأصنافها.

كذلك بلا شك سيعيد الإنسان بعد كورونا التفكير في أشكال العمارة وكيفية تصميم المدن، وما فيها من مقاهٍ ومسارح وسينما، فالتباعد الجسدي سيكون حاضرا في عقول المهندسين والمصممين، ولا بد أن العلاقات الإنسانية ستعيد ترتيب نفسها، مثل علاقات الحب، والصداقات، وكذلك فضاءات الممارسات الدينية.

يذكر التاريخ أن زلزال لشبونة المدمر سنة 1755 ضرب والناس في الكنيسة صباح عيد القديسين ولكون هذا الزلزال لم يستثن لا الأغنياء ولا الناس المتدينين ولا الأطفال ولا الفقراء، فقد أحدث أزمة وجودية عند المفكرين والكتاب والفلاسفة في وقت انكفأ الكثيرون إلى الدين لتفسير ما وقع والتخفيف من آلام الناس معتبرين أن خطايا الناس كانت سبباً في ما حصل، لكن مفكرين مثل فولتير وروسو وإيمانويل كانط كان لهم رأي آخر زعزع التفكير الإنساني. فقد كتب فولتير قصيدة عن الفاجعة يقول فيها: "إن الله ينتقم، وإن الضحايا إنما يدفعون ثمن خطاياهم"؟/ أية خطيئة وأي جرم لهؤلاء الأطفال/ الملتصقة أفواههم بالأثداء المسحوقة والدامية لأمهاتهم؟/ هل بلشبونة، التي لم يبق لها أثر، رذائل أكثر مما يوجد بلندن أو باريس الغارقة في الملذات؟/ لشبونة منكوبة، وفي باريس تقام حفلات الرقص". وكتب جان جاك روسو "رسالة حول العناية الإلهية" نشرها في نفس السنة التي نشر فيها فولتير قصيدته ودافع فيها عن النزعة التفاؤلية معتبراً أن الزلزال مسؤولية الإنسان. ورد عليها فولتير في روايته الشهيرة "كانديد". أما إيمانويل كانط صاحب "نقد العقل الخالص" فقد قلب الفرضيات والنظريات وثار على نظرية أرسطو التي حكمت الانسانية لقرون، بأن الزلازل تتسبب فيها الرياح التي تمر من خلال كهوف تحت الأرض، وقال كانط بأن الأمر يعود إلى انفجارات تحدث في كهوف تحت الأرض.

فكيف سيولد العالم بعد وباء كورونا الذي حكم وجمع كل السلطات في يده، وكيف سيفكر الإنسان ويتصرف بعد كل الذي حدث له؟ التاريخ سيدون، ومن سيأتي بعدنا سيقف على حجم تأثير الوباء على الفكر الإنساني ونظرياته.
C07D6E37-277B-47B4-AAA7-B94B7E80CB00
الطاهر حمزاوي

صحافي وكاتب مغربي، يعمل في المجال الإعلامي وينشر في عدد من المنابر الوطنية والعربية.