بدايتي مع الكتب

بدايتي مع الكتب

13 مارس 2020
+ الخط -

في الحقيقية لم أكن قارئًا يومًا ما. بل كنت أشعر بأن القراءة مضيعة للوقت لا أكثر. للأسف، لقد كنت مخطئًا في حكمي على القرّاء، فبعد أن انغمست في الكتب تغيّر تفكيري تمامًا عن القراءة.

في أحد الأيام وأنا أراجع نفسي .. كيف حدث كل هذا التغيّر؟

أذكر في فترة من الفترات أنني كنت ألتقي بأصدقاء، كانوا من القرّاء الجيدين، ولن أقول إنهم قرّاء نهمون. اختلطت بهم لفترة ويا لها من فترة جميلة. عندما كنا نذهب لشرب الشاي في أحد "الكافيهات" كانوا دائمًا ينخرطون في نقاشات، أحيانًا ثقافية وأخرى فكرية، وفي بعض الأوقات يعرجون على السياسة. لا أنكر أنني كنت أشعر بالنقص معهم، فقد كانوا يتحدثون عن مصطلحات وأحداث وأسماء شخصيات لا أعرف عنها سوى أن لها تأثيرها الكبير على هذا العالم، وجهلي بكل هذا كان يضايقني كثيرًا.

كنت أعرف بعض ما يتحدثون عنه، ولكن كانت معرفتي سطحية، فقد كنت أشعر بسذاجة ما أقوله عندما أحاول مشاركتهم الحوار. بدأوا يتحدثون عن عالم الكتب، كروايات تولستوي وإرنست همنغواي، ومسرحيات شكسبير وفلسفة أفلاطون وأرسطو وسياسة ابن خلدون وأفكار نيتشه ونظام ديكارت ومبدأ سبينوزا وعبقرية عمر، فضلاً عن ثقافات الأديان وسياسات الأحزاب المشهورة في العالم وغيرها.

في ذلك اليوم، شعرت بملل لا يُطاق، أحسست بأنه حان الوقت لأتغير وأعرف ما حدث وما يحدث من حولي. استأذنتهم وخرجت مسرعًا باتجاه سكني. دخلت محرك "غوغل" وبدأت أبحث عن معاني تلك المصطلحات، ومن هي تلك الشخصيات وما هي تلك الأحداث، وفي كل مرةٍ كنت أبحث عن موضوع ما كنت أنقاد لا إراديًا إلى مقال آخر، أو ينبثق أمامي اسم كتابٍ فاقرأه وهكذا.

ظللت عاكفًا على الكتب ليل نهار. في كل يوم أقرأ فيه كنت أشعر بمدى جهلي ومدى حاجتي إلى القراءة أكثر وما زلت أشعر بهذا الشعور حتى اللحظة. كنت أقرأ أحيانًا أكثر من كتاب في اليوم الواحد. ظللت مع الكتب لسنوات، ولم أدر بنفسي إلا وقد أصبحت عاشقًا لها، متيمًا بما يخطه أصحابها بين دفتيها.

في أحد الأيام أرسل أحد الأشخاص الذين كانوا يريدون الانخراط في عالم الكتب قائلًا "أريد أن أكون قارئًا .. ماذا أعمل؟". ما كان يعلم أنني ما عشقت الكتب إلا بعد أن قضيت سنوات طوالاً، أجالسها النهار وأسامرها الليل. ما كان يعرف أنني ما عشقت إلا بعد أن تنازلت عن أشياء أخرى، تنازلت عن بعض متعي، كمتعة البقاء على مواقع التواصل الاجتماعية، ومتعة الخروج مع الأصدقاء والجلوس على طاولات اللعب، لقد أنقذت وقتي الذي كان يُهدر دون أي فائدة وشغلته بالقراءة.

لم يكن صديقي ذلك يعرف أن أي إنسان لكي يكون عاشقًا للقراءة لا بد من أن يكون هناك سبب ودافع يدفعه لكي يقرأ. كرغبة التعلم، رغبة المعرفة، الشعور بالعجز، الشعور بالجهل .. الخ.

حكيت لصديقي قصة الشيخ أحمد ديدات، إذ أخبرته بأنه لولا سخرية بعض زملائه الذين تأثروا بالبعثات التنصيرية من الإسلام ومن حياة الرسول محمد لما انكبّ على الكتب ولما صار هذا الشيخ الكبير الذي ذاع صيته في الشرق والغرب. لقد انكبَّ على الكتب لأنه وجد الدافع لذلك وهو سخرية الآخرين من دينه وشعوره بعجزه عن الرد.

بعد أن عكف ذلك الشخص على القراءة، صرنا أصدقاء. كنا نتناقش في كل شيء. كنت أتحدث إليه أكثر مما أتحدث إلى أهلي، فهو الوحيد الذي كنت أشعر بأن الحديث معه ليس مضيعةً للوقت. كان يكتب لي عن رأيه في قضية ما، وعندما أجد الوقت للرد عليه كنت أفعل، وأكتب رأيي في تلك القضية أيضًا.

بعد أن أصبح قارئًا نهمًا شكرني ثم قال: "حقًا، إن القراءة تُحررنا من أكبر القيود التي تعيق تقدم حياتنا، إنها تحررنا من تلك الحواجز التي تعيق تفتق عقولنا ورقي تفكيرنا، أعترف أنني مدين لك وللكتب وسأظل مديناً لها حتى النهاية".

أخبرته بأنني أيضًا مدين للكتب، فهي التي تصنع العقول والحضارات. لذا اقرأوا أكثر، فالقراءة ستجعل منكم أشخاصاً آخرين.

عبد الرحمن الآنسي
عبد الرحمن الآنسي
مؤلف وروائي يمني مقيم في تركيا، له روايتان ومجموعة قصصية، وينشر في عدد من الصحف. يعبّر عن نفسه بالقول "اختلف معي لأراك، فقد مللت من رؤية صورتي في المرآة كل يوم".