هزليات السياسة الأسدية (15)

هزليات السياسة الأسدية (15)

01 يناير 2020
+ الخط -
اعتبرَ الحاضرون في جلسة الإمتاع والمؤانسة أن دخولَ "أبو زاهر" على خط الحكاية أمر جيد، وينسجم مع طبيعة سهراتنا، حيث الحديث في هذه السهرات مثل الشعر القديم الذي عَرَّفَهُ "الآمدي" بأنه: يُفهم بعضُه من بعض، ويأخذُ بعضُه برقابِ بعض.

قال كمال: كنا عَمْ نحكي عن الرجلْ الحلبي الطيبْ "أبو أيمن" اللي اعتقلوه المخابرات (في أوائلْ التمانيناتْ) ونقعوه عندهم عشرينْ يوم بسببْ عدمْ اكتراثُه بالاستفتاء اللي بيصير في سورية مرة كل سبع سنوات.. وأنا كنت بدي قول شغلة مهمة، لاكنْ أبو زاهرْ راح بالقصة في اتجاه تاني.

قال أبو زاهر: ما صار شي. بإمكانك هلق تقول اللي بدك غياه.

قال كمال: وجهة نظرْ المخابرات في موضوع الاستفتاء الرئاسي واضحة جداً، وبتتلخصْ بالنقاطْ التالية:
أولاً- إنُّه كلّْ الناسْ اللي بيحق لهم الانتخابْ والاستفتاء لازم يروحوا عَ المراكزْ حتى يتحقق (الإقبالْ الجماهيري واسعْ النطاقْ) اللي بيحكوا عنه في الصحف التلاتة البعث والثورة وتشرين.

ثانياً- وإنه من حَقّْ كل مواطنْ، ومن واجبُه، إنه يعبرْ عن رأيُه في هاي الاحتفالية اللي بيسموها في الصحف التلاتة: عرس الديمقراطية.


ثالثاً- وإنه كل هدول اللي بيروحوا على مراكز الاستفتاء أثناء "عرس الديمقراطية" لازم يقولوا (نعم، موافق على تجديد البيعة لحافيييظ لمدة سبع سنوات قادمة)، بيكتبوا هالشي إما بالقلم، أو بيبخشوا أصابيعهم بالدبابيسْ وبيكتبوها بالدم على طريقة اتحاد شبيبة الثورة.. وممنوع طبعاً إنه حدا منهم يكتب إنه غير موافق، منعاً باتاً. وهيك بتظهرْ اللُحمة الوطنية في أكمل وجوهها، وبتنشقّْ مؤخراتْ الإمبريالية والصهيونية والرجعية من الغيظ لما بيشوفوا كل هالحب الجماهيري لحافيييظ..

قال أبو محمد: طيب يا أستاذ كمال، هاي الشغلات فهمناها، بس إنه وعدتنا تحكي لنا عن فصل تاني صار مع بطل قصتك "أبو أيمن"، غير فصل التوقيف عشرين يوم في الأمن بسبب الاستفتاء.

قال كمال: نعم. بالفعل صار مع هالإنسان فصلْ أبشعْ وأحقرْ وألأمْ من هداك الفصلْ. وعلى فكرة، السيدة أم أيمن قالت لي بعدما صار اللي صار إنه يا ريت كانوا المخابرات تاركينُه عندهم في السجن، يا ريت.

قال أبو ماهر: أف! ليش شو صار معه؟

قال كمال: في يوم من الأيام زاروه في البيت تلات شباب لابسين تياب بتدل على إنهم أغنياء "زناكين"، حتى قَصّة شعورْهُمْ، وطريقة حلاقة دقونهم وشواربهم وترتيبها بتوحي إنهم أولاد ناس أكابر. وبعد السلام والتحية والتي واللتيا، قال له واحد منهم:
- يا عمو أبو أيمن ترى نحن جايين لعندك، وعارفين مين إنته. بصراحة سمعتك الطيبة واصلة لكل حارات حلب..

قال أبو أيمن: الله يجبر بخاطرك يا إبن أخونا.

قال الرجل: والله أنا ما بحكي غير الحَقّ، اللي سمعناه إنك أحسنْ معلمْ بيتون بكل هالمنطقة، وإنك بنفس الوقت طَيَّان، وما في بحلب معلم بيعمل قشرة شمينتو بيضا للحيطانْ أكوس من القشرة اللي بتعملها إنته.. وخلاصة الموضوع يا عمي أبو أيمن، نحنا ورتنا بيت عتيق من المرحوم والدنا، وهلق مفكرين نهدم هالبيت، ونعمره من جديد، وبعدما تشاورنا مع الحجة الوالدة، ومع بعضنا، ومع إخواتنا البنات، قررنا نكلفك بعملية الهدم وإزالة الأنقاض، وبعدها منشوف شي مهندس مرتب، ومنخليه يرسم لنا مخطط للبناء، وإنته بتتولى عملية البناء على ضوء المخطط من الألف للياء.

قال الشاب الثاني: أي نعم. وبالنسبة للأجرة يا عمي أبو أيمنْ إنته بتحط الرقمْ اللي بيناسبك، وإذا ما بتحب تاخد أجرة مقطوعة، منتفق معك على نسبة من الأرباح. لأنه إذا طلعنا محل البناء القديم ببناية جديدة راح نحقق أرباح كويسة كتير، لإنه حلب متلما بتعرف فيها أزمة سكن، والناس عم تدورْ على بيت تسكنه بالفتيل والسراج..

وفتح الشاب الثالث حقيبة، وطَلَّعْ منها دستة مصاري وناولها لأبو أيمن وقال له: تفضل أخي أبو أيمن، هاي دفعة على الحساب.

قال أبو محمد: لحد هون أنا ماني شايف في مشكلة يا أستاذ كمال.

قال كمال: نفس الشي أبو أيمن، كان مبسوط كتير من هالعرض، وما شاف فيه أي مشكلة، وصار عنده إحساس إنه هالشغلة راح يجيه منها مبلغ بيشيله لغدرات الزمان. فقال لهم: توكلنا على الله.. وين البيت؟ فأعطوه العنوان. قال لهم: ليش ما بيروح واحد منكم معي؟ قالوا له: نحن بدنا نشوف المحامي تبعنا اللي عم يصفي لنا أمور الورتة، روح إنته قدامنا وبس نخلص لقاءنا مع المحامي منلحقك، وعلى فكرة راح تلاقي باب البيت مفتوح، لأنه عتيق وما إلُه قفل.

قال أبو ماهر: الله يستر ما يكونوا هالشباب عم يرتبوا لأبو أيمن شغلة حقيرة.

قال كمال: المهم بعدما طلعوا من عنده، نادى للست أم أيمن، ومَزَح معها متل عادته، وبَشَّرْها بإنه أجته رزقة كويسة، ومد إيده باتجاه زاوية الدار وقال لها: إش رأيك؟ منحفر له هون ومنقبره. شهقت وقالت له: ولي على قامتي، مين بدنا نقبر؟ قال لها: الفقر! ومتلما بتعرفي يا مَرَا إكرام الميت دفنه.. وضحكوا هوي وهيي، وقال لها: أنا رايحْ أشوف البيت اللي بدنا نشتغل فيه، تعي حتى "أَجِرْقِكْ" بوستين من جبينك على نية التيسير. وراح. وعلى حسب ما حكت لي أم أيمن، وبحسب ما هيي سمعتْ من الناس فيما بعدْ، إنه لما وصل أبو أيمن البيت العتيقْ المهجورْ، ولسه يا دوبْ دَخَلْ، سمع صوتْ تلقيم بواريدْ، وركضوا تنين سكروا له فمه، وسحبوه لجوه، وقالوا له: باعتينك المخابرات يا كلب؟! وقبلما يتمكنْ من الإجابة سمع صوت بمكبر الصوت عم ينادي: اللي موجودين جوة، ألقوا السلاحْ واطلعوا وإنته رافعين إيديكم لفوق، ما في داعي للمقاومة. لكن هدول الشباب اللي في البيت رفضوا الاستسلام، وبدأت عملية الاقتحام، وتبادل إطلاق النار، لحد ما انقتلوا الكل، بما فيهم أبو أيمن. الله يرحمه.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...