وهم امتلاك العالم!

وهم امتلاك العالم!

30 سبتمبر 2019
+ الخط -


لأننا لأسباب كثيرة، لم نعد نتصور حياتنا بدون "السوشيال ميديا"، أصبحنا في أشد الحاجة إلى ضرورة نقدها ونقد استخدامنا لها، لكي لا نزيد من الاستسلام لسطوتها علينا، أو لكي نحاول تقليل سطوتها إلى أقصى حد ممكن.

من أبرز ما يمكن انتقاده فيما يخص علاقتنا بالـ"سوشيال ميديا" هو قدرتها على مضاعفة إحساسنا بامتلاك العالم، وهو إحساس من أبرز آثارها الجانبية المبهجة واللعينة، يدفعنا إلى تلخيص كل الظواهر المركبة والمعقدة في سطور قليلة، لأنك إذا أطلت في شرحها والتعبير عن تناقضاتها وجوانبها، ستخاطر بفقدان متابعيك وأصدقائك لما تقوله، لذلك يستحسن أن "تنجز" وتختزل بقدر الإمكان، لكي تحافظ على الوضع المفضل لمستخدمي السوشيال ميديا، حيث النتائج قاطعة والأحكام نهائية والجدل محسوم، وهو وضع يريح أكثر ما يريح التطهريين، سواءً كانوا يعتنقون "التطهرية" أو "الطهرانية" كوسيلة أكيدة ووحيدة للخلاص من نجاسة العالم البشع، أو كوسيلة سريعة للراحة من الإحساس بالعجز وقلة الحيلة أمام واقع مركّب وملغز، وليس مهماً هنا أن يكونوا بالفعل تطهريين في حياتهم ومواقفهم واختياراتهم، المهم أن يبدوا كذلك أمام أعين أصدقائهم ومتابعيهم، لكي يسهل عليهم اتهام المخالفين لهم بالدنس والتلوث.

السياسة كفكرة جربها الإنسان عبر التاريخ واكتوى بنارها أحياناً واستفاد منها أحياناً، تتناقض بالضرورة مع فكرة التطهرية، ليس فقط لأنها تتعامل مع المواطنين بوصفهم بشراً يمتلكون هِنات وتناقضات وجوانب متعددة وأوجه بعضها مظلم وبعضها مشرق، ولكن لأنها ليست مهتمة في الأصل بفكرة الاحتفاء المطلق أو الإدانة النهائية، فهي تبحث فقط عما يمكن تحقيقه وعما يمكن الاستفادة منه، سواء من أجل تحقيق أهداف نبيلة أو مصالح رخيصة تتخفى وراء أهداف نبيلة أو من أجل مزيج من هذا وذاك، وهو الغالب الأعم.

للأسف، كساح السياسة في مصر، كساح قديم يسبق قيام ثورة يوليو 52، لكنه تجذر واستفحل بعدها في ظل الحكم العسكري بطبعاته المختلفة، لتظهر أعراضه بشكل مرير عقب خلع مبارك، ولذلك صعدت الفكرة التطهرية إلى أقصى ذراها منذ ذلك الحين، دون أن تكون مرتبطة حتى بكيانات سياسية منظمة، توظف التطهرية بشكل أو بآخر للضغط السياسي من أجل تحسين ظروف الحياة، وفي ظل ذلك تم استخدام تعبير (الفلول) بكثافة، فانقطعت بفضل الاندفاع في ذلك كثير من جسور التواصل التي يمكن أن يتم مدها مع كثير من المستفيدين من نظام مبارك، والذين كان لدى بعضهم ما يمكن تقديمه لإدانة النظام والمساعدة على هدمه، ليس لأنهم أطهار أنقياء، أو لأنهم كانوا من مؤمني آل فرعون الذين يكتمون إيمانهم بالتغيير، بل لأنهم في نهاية المطاف بشر خائفون وطامعون، يرغبون في الالتحاق بالجديد المنتصر.

كنت في تلك الأيام العصيبة أفهم لماذا ترفع جماعة الإخوان وأنصارها راية الهجوم على الفلول، لأن مصلحتها المباشرة كانت تقتضي إبعاد كل من لديهم خبرة سياسية وإدارية من المنتمين إلى النظام القديم، لكني لم أكن أفهم لماذا يشارك الكثير من المؤمنين بثورة يناير في ذلك الهجوم الذي لم يقتصر على من أطلق عليهم لقب "الفلول"، بل وعلى كل من يشير إلى خطأ استخدام ذلك اللقب، وضرورة التفريق بين من شارك في إجرام نظام مبارك بشكل مباشر فتلطخت يداه بالدماء، وبين من استفاد منه ماليا ومعنويا، ويرغب بعد خلعه في أن يستفيد من غيره، وهو تفريق لا تعترف به التطهرية لأنها تبحث عن الحل النهائي، وتتصور وجوده، أما السياسة فتبحث عن الحل الممكن، لأنها تعتقد باستحالة وجود حل نهائي.

تفاقمت خطورة الفكرة التطهرية، بعد أن تمكن نظام السيسي من إحكام قبضته على مصر خلال السنوات الماضية، فأصبح لديه نوعان رئيسيان من القمع يمارسهما بحق المواطنين المدنيين الذين لم يتورطوا في أي عمليات إرهابية، أولا: قمع منظم يستهدف المؤمنين بالعمل السياسي والباحثين عن حل ممكن، وثانيا: قمع عشوائي لترسيخ حالة الذعر الجماعي واليأس الكامل، ليصبح من العبث الحديث عن تحركات سياسية في ظل مجال عام تزيد درجات خنقه كل لحظة، لدرجة أن متابعة الفيس بوك بشكل يخالف هوى النظام أصبح جريمة سياسية، ولذلك تصبح التطهرية هي الحل الممكن للتنفيس على "السوشيال ميديا"، فترتفع المزايدات التطهرية إلى أقصى درجة في نقد كل من يحاول التغيير، لأن تلك المزايدات تغذي إحساس البعض بأنه ليس عاجزا ولا مقموعا، بل هو متطهر يرفض المشاركة في الواقع الدنس، ويحتفظ بنقائه الثوري، ويوفر جهوده وتضحياته إلى غد أفضل لا يعلم موعده أحد.

في ظل حالة بائسة كهذه، يمكن أن تجد إخوانيا أفلت من السجن داخل أو خارج مصر، يتهم زملاءه المعتقلين المرهقين بالعمالة والخيانة، لأنهم يطلبون الخروج من السجن بأي ثمن، دون أن يفكر في ظروفهم المأساوية القاتلة لأي قدرة على الصبر والأمل، تجده أيضاً يطالب خصومه السياسيين المعارضين للسيسي بالاعتذار له ولجماعته، قبل أن يفكر في إمكانية التحالف معهم ضد النظام، حتى لو لم يكونوا يطلبون أصلا التحالف معه، لأنه مستسلم لفكرة الوعد الإلهي بالنصر القريب، وستجد العكس تماما ينطبق على "الثورجي" الذي يعيش على كف عفريت، وربما لا يعرف أين سيبيت ليلته اليوم، لكنه في الوقت نفسه يبدو على "أكاونته" ممتلكا لتصور متماسك عن العالم والكون، وحريصا على تنقية صفه الثوري، ليس من الإخوان وحدهم، بل من كل من تعاطف معهم أو رفض ظلمهم وطالب لهم بأبسط حقوقهم كمواطنين، ولأن ذلك التصور الذي يظنه متماسكا يملؤه حتى الثمالة، ستجده يقف داخل حسابه الشخصي ليلقي تعليمات لمتابعيه بما يجب عليهم أن يصدقوه وما يجب أن يرفضوه، لأنه على يقين بفكرة "بكره الثورة تقوم ما تخلي" التي لا زالت تريحه نفسياً، مع أنه عاش ثورة ورأى بأم عينيه استحالة أن "تقوم الثورة وما تخلي" في أي مكان في العالم في أي فترة في التاريخ.

لذلك ولذلك كله، تستطيع أن تفهم لماذا يفضل كثير من المواطنين في ظروف كهذه، أن يواصلوا التعلق بالممكن، حتى لو كانت يداه ملطختان بالدماء، خاصة بعد أن نجح القمع في تأكيد قدرته على الإفلات من المحاسبة والعقاب، فلم يعد للتضحيات في نظر هؤلاء المواطنين ثمن ولا عقوبة ولا حتى دية، ولعل ذلك يفسر لك استهداف النظام لمدنيين يحاولون ممارسة السياسة في الأطر المشروعة وتحت أكثر الأسقف انخفاضاً، وهو ما يقابله البعض بكتابات مستنكرة تتساءل لماذا يقمع النظام هؤلاء بدلاً من أن يركز على استهداف الإرهابيين، ولماذا لا يتعامل بنفس الطريقة مع أصحاب الصوت العالي وعشاق المزايدات وهواة التطهرية الكاملة، متصورين أن النظام يفعل ذلك بشكل عبثي وأنه يمارس نوعاً من الغباء السياسي، وفي ظني أن للنظام كثير من الغباوات الناتجة عن الطمع والفساد، لكن هذه الخطوة بالتحديد من أذكى وأخبث ما يقوم به، لأنه بضرب المؤمنين بالسياسة وبالحلول الممكنة، يسعى لتأكيد قدرته على الانفراد بالمجال العام، ويستهدف إطالة عمره الأمني، على أمل أن تسهم الإجراءات الاقتصادية ومساعدات الدول المانحة في إطالة عمره الاقتصادي، فيتمكن من البقاء أطول، أو ربما إلى الأبد.

إذا كان هناك شيء يمكن التأكد منه بالعقل والمنطق، فهو أن حكاية "البقاء إلى الأبد" مستحيلة نظرياً وعملياً، لأي نظام مهما ازداد قمعه، لكن يبقى الأهم هنا: حين ينتهي أبد نظام السيسي، ويبدأ في طريقه إلى السقوط، أو يسقط بالفعل بسبب هبة شعبية أو تناقضات داخلية أو حسابات خارجية أو مزيج من ذلك كله، هل ستظل التطهرية هي السائدة وقتها في صفوف المطالبين بالتغيير، أم سيدرك ـ لا أقول الجميع فهذا مستحيل ـ غالبية الراغبين في التغيير والإصلاح أهمية السياسة وحلولها الممكنة حتى لو كان طعمها مراً، وهل سيتبينون خطورة الجري وراء التطهرية بأوهامها الأبدية ووعودها المسكرة الخادعة؟

هذا هو السؤال الذي قد تختلف معي في وصفه بالأهم، لكنني سأختلف معك لو استبعدت كونه مهماً، ولو أنكرت أن التفكير الإيجابي فيه يمكن أن يدفعنا إلى تحسين طريقتنا في التعامل مع "السوشيال ميديا" بوصفها الوسيلة الإعلامية الأبرز الآن، لأننا سنستفاد منها أكثر بكثير، لو تخلينا عن عدد من الأوهام المرتبطة بها، وعلى رأسها وهم قدرتنا الدائمة على امتلاك العالم، وهو وهم يغلق منافذ التفكير والتحليل، ويقودنا إلى خسارة كل شيئ.

والله أعلم.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.