أحمد فؤاد نجم يحكي عن سنوات الملاحم والنوازل (1/2)

أحمد فؤاد نجم يحكي عن سنوات الملاحم والنوازل (1/2)

07 اغسطس 2019
+ الخط -
قبل أن تقرأ: 

تذكرت هذه الأوراق التي ستقرأها الآن، حين قرأت خبر تحويل شقة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم في حي المقطم بالقاهرة إلى متحف يقوم بتوثيق تراثه وأعماله، وهو خبر أبهجني للغاية، فلم ألتفت إلى ما تلاه من مزايدات ومماحكات وملاحظات مشروعة، وتمنيت ألا يلتفت إلى ذلك أيضاً القائمون على شأن ذلك المتحف الذي أتمنى أن يكون مشروعاً فعلياً وليس كغيره من المشروعات التي نسمع عنها الكثير من الوعود الكاذبة، لأن محبي الشاعر الكبير يدركون أن فنه الجميل ومشواره الحافل، في أمسّ الحاجة إلى مؤسسة تقوم بتوثيق كتابته المتناثرة حتى الآن في بطون عشرات الصحف والمجلات دون مبالغة، فقد كان معتمداً في رزقه على النشر في الصحف، بعد أن يئس من الحصول على حقوقه من الناشرين الذين خاض مع أغلبهم معارك طاحنة، مبكية وإن كانت تفاصيلها مضحكة، ولذلك قرر "عم أحمد" حين استفحلت ظاهرة قرصنة الكتب، ألا يختار بعضاً من المقالات التي كان ينشرها في الصحف لكي يضمها في كتب، كما كان يفعل من قبل، وهي كتب هي الأخرى لن تجد لها حصراً وافياً عند أحد، لأن بعضها كان يصدر بدون إذن منه، وبعضها كان يعيد هو طبعه في دور نشر داخل وخارج مصر، فيضيف إلى بعض الطبعات مقالات جديدة بناءً على طلب الناشر، ويغير العنوان أحياناً، وبالتالي لا يمكن لك أن تصل إلى قائمة واضحة أو شبه دقيقة بما نشره أحمد فؤاد نجم من كتب في حياته، وهو ما يمكن أن يتغير لو قام المتحف المنتظر بدور مؤسسي لتوثيق تراث أحمد فؤاد نجم وجمع مقالاته وحكاياته وبرامجه التلفزيونية، ليضعها بين يدي محبيه من القراء والباحثين والمؤرخين، وهو أقل ما يستحقه هذا الشاعر العظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.




لكن دعني أولاً أخبرك كيف حصلت على هذه الأوراق التي أظن أنها لم تُنشر من قبل، على الأقل بنفس الصيغة التي ستقرأها؟
منذ أن تعرفت على عمنا أحمد فؤاد نجم سنة 1995 حين سعدنا بكتابته معنا في صحيفة (الدستور) التي كنت أعمل سكرتيراً لتحريرها، وأنا لا أكف عن سؤاله: لماذا توقف عن كتابة مذكراته والتي بدأ نشرها في مطلع التسعينات بعنوان (الفاجومي)، وكانت تُنشر على حلقات في مجلة (روز اليوسف) أيام مجدها، ثم صدرت في جزئين، أعيد طبعهما عبر السنين في دور نشر كثيرة، وللأسف صدرت لتلك المذكرات الكثير من الطبعات المزورة أو الناقصة أو المليئة بالأخطاء المطبعية، وقد ساهم عم أحمد في ذلك باستسهاله الحصول على مقابل لنشر كتبه من بعض الناشرين دون الإشراف على إصدارها، ولم يكن ذلك غريباً على شخصيته الفاجومية الهلهلية التي تدع الخلق للخالق، والحكايات في ذلك أكثر من أن تُروى.
كان عم أحمد يبرر تأخره عن استكمال كتابة مذكراته بأنه لن يجد صحيفة أو مجلة تتحمل نشرها، لأن أغلب أبطالها ليسوا فقط أحياء يرزقون، بل هم شخصيات عامة لها شنّة ورنّة، ولن يعجبها ما سيرويه نجم عنها بكل صراحة، ولذلك يفضل أن يوفر المشاكل على الصحف القليلة التي توافق على استكتابه، لكن الأستاذ إبراهيم عيسى رئيس تحرير صحيفة (الدستور) كان يطلب دائماً من عم أحمد أن يكتب ويترك له مسئولية مواجهة المشاكل وردود الأفعال حين يتم النشر. كان عم أحمد يكتب في (الدستور) على مدى عام ونصف تقريباً عموداً أسبوعياً جميلاً وكان يلقى إقبالاً شديداً من القراء، خصوصاً أن عم أحمد لم يكن قد بدأ في النشر الصحفي بكثافة كما حدث بعد ذلك، وقد جمع بعض مقالاته الدستورية في كتاب لم تتم إعادة طبعه بعد ذلك، لكن عم أحمد في الوقت نفسه، وبرغم ترحيب (الدستور) بنشر كل ما يرغب في نشره، كان يفضل أن يكتب في عموده تعليقات على الأحداث الجارية، بدلاً من استكمال كتابة مذكراته، وأذكر أنه شارك في كتابة 4 مقالات عن القرآن الكريم خلال شهر رمضان، جمعت بعد ذلك في كتاب (القرآن في مصر) الذي حرره الشاعر الكبير إبراهيم داود، وكتب أيضاً 4 مقالات دينية في ملف كنت أشرف عليه عن الخلفاء الراشدين، لم يتم جمعها حتى الآن، كما أذكر أنه عاد لكتابة الشعر بعد انقطاع سنوات حين وقعت مذبحة قانا، ونُشرت قصيدته في الصفحة الأولى من عدد (الدستور).
كان عم أحمد يأتي إلينا كل أسبوع في مقر (الدستور) لتسليم مقاله، وكنا نقضي معه ساعات من أجمل ما يمكن، كان جمالها يزداد حين يكون هناك ماتش للأهلي نشاهده معه ونستقوي بإفيهاته الساحرة على زملكاوية الدستور مثل إبراهيم عيسى وحمدي عبد الرحيم وهشام يحيى وغيرهم، وكنت أذهب إليه أحياناً في منزله بمساكن الزلزال بالمقطم لاستلام مقاله، وكان يرسل مقاله أحياناً مع صديقه الحميم الشاعر الكبير إبراهيم داود وهو بالمناسبة الذي حمل إليه طلب أسرة التحرير بالكتابة في (الدستور)، وظل يلح عليه في الكتابة حتى اقتنع بذلك، ولا يمكن أبداً أن أنسى الليلة الجميلة التي ذهبنا فيها إلى منزله لنحتفل بقراره المشاركة معنا في الكتابة، وقد كانت تلك أول مرة أراه فيها في منزله بالمقطم، وكانت أغرب مرة أراه فيها أيضاً، ويجمعنا الحكي عن تلك الليلة في مناسبة أخرى بإذن الله.
لم أكن أكف في كل مرة أرى فيها عم أحمد عن تذكيره بأهمية استكمال كتابة ذكرياته ومذكراته، خصوصاً أنه كان يروي لنا أجزاء منها كانت في غاية الإمتاع والأهمية، ولذلك كنت في غاية السعادة حين دخل إلى مقر (الدستور) في شارع ضريح سعد المتفرغ من القصر العيني، وقام بتسليمي مقاله الأسبوعي، ثم أشرق وجهه بابتسامة جميلة وهو يناولني مجموعة أوراق، سارعت باحتضانه وأنا في قمة الفرحة بعد أن رأيت أول ورقة من تلك الأوراق التي كُتب عليها بخطه الجميل ( أحمد فؤاد نجم ـ الفاجومي ـ حكاية مواطن شايل في قلبه وطن ـ الجزء الثالث)، لكن فرحتي لم تكتمل لأن (الدستور) أغلقت في الأسبوع التالي مباشرة بقرار رئاسي، ولم يتح لنا أن ننشر ذلك الجزء من مذكرات أحمد فؤاد نجم التي اختار لحلقتها الأولى عنواناً رائعاً هو (سنوات الملاحم والنوازل)، وأذكر أن العدد الذي حاولنا إصداره من (الدستور) بالتحايل على الرقابة، بعد قرار الإغلاق بأسبوع، اختار إبراهيم عيسى أن ينشر في صفحته الأولى فوق ترويسة الجريدة قصيدة أحمد فؤاد نجم الأعظم (كلمتين لمصر) واختار منها بيت "كلمتين يا مصر يمكن همّا آخر كلمتين، حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين" لينشر كعنوان لذلك العدد الذي لم يصدر أبداً، وكنت متأكداً من عدم صدوره، حتى أنني احتفظت بقطعة الفيلم التي طبعت عليها القصيدة، وكانت الصفحات وقتها تذهب إلى المطبعة على أفلام نيجاتيف وبوزيتيف، ولا زلت أحتفظ بهذه القطعة الغالية على قلبي حتى الآن.
بعد إغلاق (الدستور) بعام ونصف، اقترحت على المهندس إبراهيم المعلم صاحب دار (الشروق) وكان وقتها قد أنشأ شركة للنشر الصحفي بدأت بإصدار مجلة (وجهات نظر) إصدار صحيفة أسبوعية بعنوان (الناس) تكون متخصصة في الحديث عن الناس وقصصهم وحكاياتهم وأسرارهم وأحوالهم، سواءً كانوا مشاهير أم مغامير، وقد ساعدني في إصدارها الصديق حمدي عبد الرحيم، ورسم لها صديقنا الفنان محمد الغول تصميماً صحفياً "ماكيت" من أبدع ما يمكن، وكنت قد اتفقت مع حمدي ومحمد على أن نقوم بتقديم المشروع إلى المهندس إبراهيم المعلم، في صورة صفحات مكتملة تمثل العدد الزيرو الجاهز للطباعة، لكي يعطيه ذلك تصوراً كافياً عن المشروع، ويتأكد من جاهزيتنا للمشروع الذي كنا في غاية الحماس له، وقد قمنا بالتحضير للعدد وتنفيذه على القهوة حرفياً، وشاركنا في الكتابة فيه تطوعاً ودعماً عدد من كبار الكتاب أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأساتذة صافي ناز كاظم وصلاح عيسى وحسين أحمد أمين وخيري شلبي وأسامة أنور عكاشة، وكعادته تحمس عمنا أحمد فؤاد نجم للمشروع، ومع أنه لم يكن يوافق على الكتابة مجاناً في أي مكان، إلا أنه قرر أن لا يكتفي بالفصل الذي لم ينشر عن (سنوات الملاحم والنوازل)، والذي أستأذنته في نشره فوافق بكل محبة، بل وقام بمنحي نصاً ثانياً بعنوان (حواديت القلعة)، وكنت أنا وزملائي في غاية السعادة بتلك الهدية الرائعة، لدرجة أننا خفنا من وضعها في صفحات العدد الزيرو لكي لا تتسرب إلى يد أحد في مركز الجمع الفني الذي قمنا فيه بتنفيذ الصفحات، لكن سعادتنا لم تكتمل للأسف، لأن المشروع لم يصدر لعدم الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة له، ليبقى الفصلان الذين منحهما لي عم أحمد، ينتظران فرصتهما في النشر في مشاريع كثيرة حاولت إصدارها ولم تكتمل للأسف الشديد، وإن كنت قد نجحت بعد ذلك في تحقيق حلم العمل مع عم أحمد في برنامج تلفزيوني قدّمه للمرة الأولى كمذيع تلفزيوني وليس كضيف، بعد أن تحمس للمشروع الأستاذ الكبير المهندس أسامة الشيخ حين كان مسئولاً عن قناة دريم، وقد استعنت في إعداد البرنامج بالصديق العزيز مطاوع بركات الذي قام بعد ذلك بإعداد حلقات برنامج (حبايبنا) الذي نال شهرة أكبر، ولا أدري لماذا اختفت حلقات برنامج عم أحمد الأول، وأتمنى أن تقوم قناة دريم بنشرها على الإنترنت، أو أن يسعى المسئولون عن متحف عم أحمد للحصول عليها وإتاحتها لزواره إن أمكن، وأنا على استعداد لمنحهم أصول هذه الأوراق التي أظن أنها لم تُنشر من قبل بنفس الصيغة التي تقرأها، مع أن بعض ما فيها تم نشره بصيغ أخرى.
لم يكن أحمد فؤاد نجم يحتفظ بأصول ما يكتبه ويقوم بتسليمه إلى الصحف والمجلات التي ينشر فيها، بعكس أستاذنا الكبير أسامة أنور عكاشة الذي كان يرسل لنا مقالاته عبر الفاكس، ولذلك حين قام في عام 2010 بالبدء في نشر الجزء الثالث من مذكراته (الفاجومي) في صحيفة (اليوم السابع) جاءت صيغتها مختلفة عما ستقرؤه الآن، لأنه كان يكتب دائماً من الذاكرة، فلم يبدأها بالإشارة إلى (سنوات الملاحم والنوازل) التي اتخذها كنقطة انطلاق لاستئناف حكاية ما توقف عنده مع نهاية الجزء الثاني، وتأخرت حكايته لمحاولة تلفيق قضية مخدرات له وللشيخ إمام، وحين حكاها تبحر قليلاً في تفاصيلها بشكل أكثر مما رواه في هذه النسخة، وفي حين قرر في نصه هذا أن يبدأ الحكاية بنشر قصيدته الجميلة (بيانات على تذكرة مسجون)، قرر أن يبدأ الحلقات التي نشرها عام 2010 بقصيدة صديقه الشاعر محمد جاد الرب (يا أم المطّاهر رشي الملح سبع مرات) والتي كتبها في تحية الطلبة المعتقلين.
أما الفصل الذي حمل عنوان (حواديت القلعه) فقد بدأه نجم بمقطع من قصيدة له في وصف السجن وعلاقته بالزمن، ولم ينشر هذا الفصل كما كتبه بنفس الترتيب بعد ذلك، لكنه حكى منه بعض المقاطع في بعض المناسبات، سواءً في بعض البرامج التي شارك فيها أو في ثنايا مقالات له مثل مقاله الأسبوعي بصحيفة (الوفد) بدأ نشره عقب ثورة يناير وبالتحديد في نهاية مارس 2011 وكان يحمل عنوان (شباك على الثورة) وقد ظل يكتبه حتى توفاه الله، وللأسف لم يتم جمع هذه المقالات في كتاب حتى الآن، كما لم يتم جمع الجزء الثالث من (الفاجومي) الذي نشره بالفعل مرتين، مرة في صحيفة (اليوم السابع) في الفترة من 22 يناير 2010 وحتى 15 إبريل 2010، وقد توقف نشرها فجأة وكانت حلقتها الأخيرة بعنوان (حمزة البسيوني بعبع السجن الحربي) ولا زال ما نشر منها من حلقات متوفراً على الموقع الإلكتروني للصحيفة، وقد كرر عم أحمد فؤاد نجم بعض ما نشر فيها بصيغة أخرى في صحيفة (الصباح) التي بدأت منذ أواخر عام 2012 نشر (الفاجومي الجزء الثالث من مذكرات أحمد فؤاد نجم)، لكن ما نشر في الصحيفتين لم ينشر حتى الآن، وأتمنى أن يجد باحثاً يقوم بجمعه ومقارنة الحلقات التي نشرت ببعضها، ومقارنتها بما ستقرؤه الآن، وقد قالت لي الصديقة العزيزة نوارة أحمد فؤاد نجم أن الأسرة ستكون مستعدة للتعاون مع أي باحث يفكر في عمل كهذا، ومع أي جهة ترغب في تبني المشروع لنشره، لأن ما حكى عنه أحمد فؤاد نجم في مذكراته لم يكن مجرد حكاية شخصية بل كان جزءاً من تاريخ مصر في فترة شديدة الأهمية، وسيكون من المفيد أن يتم طرح ما رواه للتحقيق والتدقيق، خاصة أنه كان قد أثار ضجة كبيرة في الجزء الذي نشرته (الصباح) من مذكراته، حين اتهم المثقف الكبير محمد عودة بالتعاون مع الأمن لتوصيل تسجيلات أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام إلى الأجهزة الأمنية، وقد شن عليه الكثير من المثقفين حملة شرسة اضطرته إلى تخفيف لهجته والاعتذار عما قاله والتأكيد على احترامه للأستاذ محمد عودة، ولست متأكداً ما إذا كان نشر المذكرات قد توقف بسبب ذلك أم لا، لأن آخر حلقة منها يمكن أن تجدها على موقع الصحيفة، كانت قد نُشرت في مطلع عام 2013 الذي توفاه الله في آخره.
على أية حال، حتى يرزقنا الله بباحثين متميزين مثل نبيل بهجت الذي قام بجمع وتحقيق أعمال بديع خيري، ومثل الأستاذ كمال سعد الذي قام بجمع الكثير من أعمال بيرم التونسي، ومثل الدكتور محمد صالح الجابري الذي قام بجمع وتحقيق كل ما كتبه بيرم التونسي خلال فترة نفيه إلى تونس، ومثل الدكتور سيد علي إسماعيل الذي أنقذ الكثير من الكنوز المسرحية من الضياع، أدعو كل من يمتلك مقالات نشرت للشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم أن يقوم بالتواصل مع المسئولين عن متحفه حين يرى النور ـ عن قريب بإذن الله ـ وأتمنى أن يفعل ذلك أيضاً كل من يمتلك له تسجيلات إذاعية أو تلفزيونية أو تسجيلات على هاتفه المحمول أو كاميرته الشخصية، وسيسعدني أن أشارك بتقديم هذه الأوراق التي أنشر لك هنا نصها الكامل، والتي نشرتها كما كتبها دون أن أغير شيئاً حتى بعض علامات الترقيم التي كان يفضل استخدامها، مثل علامة الجملة الاعتراضية التي كان يستخدمها بديلاً عن علامات التنصيص، ومثل طريقة استخدامه للهاء والتاء المربوطة طبقاً للنطق العامي، ولعلي بذلك النشر، أكون حققت حلماً قديماً لم يجد طريقه إلى صفحات جريدة (الناس) التي أعدكم أن أنشر بعض ما جاء فيها هنا من حين لآخر، ليجد طريقه إلى النور، بدلاً من أن يظل مدفوناً في الكراتين التي أنقلها معي من شقة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر.
أترككم الآن مع أحمد فؤاد نجم ليحكي لكم عن (سنوات الملاحم والنوازل)، وفي الأسبوع القادم أترككم مع ما يحكيه عن (حواديت القلعه).



(أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام)

********************
سنوات الملاحم والنوازل
بيانات على تذكرة مسجون
الإسم: صابر
التهمة: مصري
السن: أجهل أهل عصري
رغم انسدال الشيب
ضفاير
من شوشتي
لما لتحت خصري
المهنه: وارث.. عن جدودي
والزمان
صنع الحضاره
والنضاره
والأمان
البشره: قمحي
القد: رمحي
الشعر: أخشن م الدريس
لون العيون: أسود غطيس
الأنف: نافر كالحصان
الفم: ثابت في المكان
ولما جيت أزحزحه
عن مطرحه
كان اللي كان !
جهة الميلاد: في أي أوضه مضلمه
تحت السما
على أرض مصر
من أي دار
وسط النخيل
مطرح ما يجري النيل
ما دام
ما يكونش قصر
الحكم: من سبع تلاف سنه
وانا
راقد سجين
أطحن على ضراسي الحجر
من الضجر
وابات حزين
الإفراج: سألني سائل
حبستك طالت.. وليه؟
ـ لأني طيب
وابن نكته
وابن إيه
ما فيش مخالفه ركبتها
ضد القانون
لأني خايف
والقانون سيفه في إديه
تسأل عليَّ المخبرين
في أي حين
تسمع وتفهم قصتي
ألِف و بِ
الإسم صابر ع البلا
أيوب.. حمار
شيل الحمول من قسمتي
والانتظار
أغرق في أنهار العرق
طول النهار
وألمّ همي في المسا
وأرقد عليه
عرفت ليه؟
...
تقدر سعادتك تقول وبمنتهى الثقه إن سنوات 67 و68 و69 من هذا القرن العشرين كانت بالنسبه للثنائي العجيب.. إمام ـ نجم هي (سنوات الملاحم العظيمه والنوازل الجسيمه) مع الإعتذار للجبرتي صاحب براءة اختراع هذا التعبير البليغ
فمن خلال هذه السنوات الثلاث بزغنا واكتمل تحققنا واتحددت أيضا وبشكل نهائي معالم وملامح علاقتنا بالسلطة التي وضعتنا في خانة النشاط المعادي واتعاملت معانا أمنيا على هذا الأساس!
سنة 1967 وبالتحديد بعد هزيمة يونيو الشهيره تحول منزلنا المتواضع جداً في عطفة حوش آدم إلى مهرب لكل الحيارى والمصدومين من هول ما حدث. شباب زي الورد كلهم كانوا عايشين الحلم ومصدقين. وكلهم دلوقتي مش مصدقين إن الحلم اندبح في خمس دقايق! ما اعرفش كانوا بيدوروا عندنا على إيه؟ أو كانوا بيستخبوا عندنا من إيه! مع إن بيتنا كان من غير باب.. أربعة وعشرين ساعه في اليوم مفتوح على البهلي لا بيصد ولا بيرد. لكن أنا عن نفسي كنت باتونس بيهم.. ويوم بعد يوم بدأ البيت يتحول إلى شبه مزار سياحي أو كعبه ثقافيه!
كل نجوم الثقافه والأدب والإعلام وردوا علينا أو زي ما بيقول الإخوه النحاه (تقاطروا) علينا يتفرجوا ويسمعوا ويسجلوا ويخلعوا! أنا كنت متأكد إن الأمن بيسجل لنا ومع هذا كنت سعيد جداً بلعبة التسجيل لأنها كانت في رأيي وسيلة انتشار سحريه ضد التجاهل أو الحصار الإعلامي وكنت متصور إن الوقت في صالحنا خصوصا بعد ما بدأنا نخرج من حوش آدم إلى جلسات مغلقة في البيوت نتعشى ونضرب أنفاس ونغني ونسجل ونخلع ـ ما كناش بنتفق على أجر ورفعنا شعار ـ لا نطلب ولا نرفض ـ لأننا كنا محتاجين للناس اللي كان مجرد إحساسنا بوجودهم حوالينا بيدفعنا إلى مزيد من الجرأه فمزيد من الإبداع. عشرات القصايد والألحان وعشرات الأصدقاء والرفاق اتجمعوا في حب مصر الجريحه واتولدوا من جديد في غرفه حقيره في المنزل رقم 2 بعطفة حوش آدم في حي الدرب الأحمر أحد أعرق وأهم أحياء قاهرة المعز لدين الله الفاطمي. وكان ده بالنسبه لنا هو حصاد سنة 1967.. عام البزوغ
...
سنة 1968 بدأ انتشارنا محليا وعربيا يشكل مصدر إزعاج حقيقي للسلطه المصرية لأننا بعد حفلة نقابة الصحفيين الرهيبه بدأنا نظهر في الحفلات العامه بدعوات رسميه من عدة مؤسسات أذكر منها الآن مؤسسة أخبار اليوم ودار الهلال والجهاز المركزي للمحاسبات وهذا على سبيل المثال لا الحصر، وكان الإقبال الجماهيري على هذه الحفلات هو الإستفتاء الشعبي اللي حولنا من مجرد اتنين هلافيت واحد أعمى وواحد أنيميا إلى ظاهرة فنيه وسياسة شغلت أعلا المستويات في الدوله الناصريه لدرجة إنهم أدرجونا في جدول المشاكل المطروحه على مجلس الأمن القومي وقد تفضل الأستاذ محمد حسنين هيكل فيلسوف النظام آنذاك بالتشخيص والعلاج حيث قال لا فض فوه (هذه صرخة جوع. وسوف نقتلها بالتخمة!!)
مع إن الأستاذ هيكل بعد ما خرج من السلطه في دولة الرئيس السادات كان له فينا رأي تاني بعد ما سمعنا في سهره خاصه في منزل الأستاذ محمد سيد أحمد وبحضور الدكتور مجدي وهبه والدكتور لويس عوض والأستاذ لطفي الخولي اللي سأل هيكل بعد نهاية السهره
ـ إيه رأيك يا محمد بيه؟
قال بالحرف الواحد
ـ إن ما سمعته الليله لم يحدث في تاريخ مصر..المكتوب على الأقل
قلت له
ـ لاحظ يا أستاذ هيكل إن الدكتور لويس عوض بيسجل صوت وصوره ـ كان الدكتور لويس عوض يحمل كاميرا سينما وصور بها السهره كامله ـ
قال الأستاذ هيكل
ـ أنا مستعد أسجل الكلام ده وأطبعه على اسطوانه!
والموقف ده الحقيقه بيفكرني بموقف مماثل للأستاذ محمود السعدني أيام ما كان في السلطه حيث كتب في مجلة صباح الخير رأيه في فن الشيخ إمام وكان رأيا سلبيا يجرد الرجل من الإنتساب لصناعة الموسيقى وحين مات الشيخ والأستاذ السعدني خارج السلطه كتب الأخير يقول أن انتشار أغاني الشيخ إمام هو الذي دفع الرئيس عبد الناصر إلى التعجيل بإعلان بيان 30 مارس الشهير!!
...
(قبل أن نكمل بقية النص غداً من المهم الإشارة هنا إلى أن موقف الأستاذ محمود السعدني السلبي من الشيخ إمام لم يكن موقفاً مرتبطاً بوجوده في السلطة كما أشار عمنا أحمد فؤاد نجم، أو حتى باقترابه من السلطة خلال عمله رئيساً لتحرير مجلة حكومية هي مجلة (صباح الخير)، فقد ظل رأيه سلبياً في الشيخ إمام حتى بعد أن دخل إلى السجن وغادر إلى المنفى الذي عاش فيه لسنوات، وقد عاد محمود السعدني للكتابة في مصر بعد رجوعه إلى مصر عام 1983 وحافظ على رأيه الناقد للشيخ إمام، وحين رحل الشيخ إمام في منتصف التسعينات كتب يؤكد على رأيه السلبي في موسيقى وصوت الشيخ إمام الذي لم يكن معجباً به بالمرة كسميع وكمتذوق للغناء والموسيقى، ولم يكن رأيه فيه سياسياً بالمرة، بدليل أنه طالما احتفى بأشعار أحمد فؤاد نجم ولم يترك مناسبة إلا وأشاد به وبمواقفه السياسية، ومن الجدير بالذكر أن موقف أحمد فؤاد نجم تغير من محمود السعدني في فترة لاحقة على كتابته لهذا السطور، وهو ما يمكن أن أشير إلى تفاصيله في مناسبة لاحقة، لذا لزم التنويه).

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.