"ست بميت راجل"

"ست بميت راجل"

25 اغسطس 2019
+ الخط -
"تزوجته وأحواله المادّية بائسة. شاب وخريج منذ بضع سنوات ومرتبه يكفيه بالكاد. لكنني تنازلت في سبيل إتمام الزيجة عن الكثير مما تطلبه الفتيات في مثل ظروفي. وكان رضاي بأحواله المادية مثار سخرية أهلي وصديقاتي وكل من يعرف كم أنفق في الشهر على مستلزماتي..".

لكن كل ذلك زادني إصراراً على إنجاح اختياري وإخراس المعارضين. ساعدته في إتمام الزواج بمصاغي ومدخراتي بدون علم أسرتي. وطمأنته منذ بداية زواجنا بأن دخلي من عملي سيدخل مع مرتبه كرقم واحد للإنفاق على أسرتنا الصغيرة. وعندما كنا نتعثر في مصاريف الشهر لأي سبب كان، كنت ألجأ لأمي في السرّ لتعطيني ما نحفظ به شكلنا الاجتماعي أمام الناس.

وأنجبت الولد ثم البنت وزادت الأعباء المادية طبعاً. لكن معها كان دخله ودخلي قد بدءا في التحسن البسيط، وتوفي بالتزامن والدي، فكان أن أنفقت ميراثي كله خلال عدة سنوات في المساهمة في ما جدّ من مصاريف الأولاد.

ومرت بعد ذلك سنوات تحسنت فيها أوضاعه بالتدريج، وكنت دوماً "ست بميت راجل" في كل ما يتعلق بمساعدته والوقوف بجواره من أجل مصلحة أسرتنا. كنت دوماً أبادر بمساندته وإيجاد الحلول لمشاكلنا كلها. وكان يصرح بأن أبويه لم يساعداه في حياته كلها بمثل ما فعلت أنا معه.


وكان ذلك إطراءً كافياً للمزيد والمزيد من العطاء من جانبي. ولما زادت دخولنا وطموحاتنا في السكن وتعليم الأولاد والسفر وخلافه، كنت أبادر بتشجيعه على الارتقاء وتدبير المال حتى ولو بالضن على نفسي والخصم من طلباتي الشخصية. بل كنت أتحمل أعباءً كبيرة في عملي لكي أضمن المزيد من التغطية المادية لمصاريف الأولاد، حتى ولو كانت رفاهيات يمكن تجاوزها.

فككل أم كنت أهفو لتوفير أعلى مستوى ممكن للأولاد ولو على حساب راحتي وصحتي البدنية. وكنت أعزي نفسي بأنه يكفيني حبه وتقديره لتضحياتي. وكنت ألتقط نظرات ارتياحه بعد مساهمتي في حل أيّ أزمة، وأعتبرها جائزتي الكبرى.

مرّ اليوم على زواجنا ما يقارب الثلاثين سنة. أنا وهو والأولاد ننعم بسنوات الكفاية والرخاء بلا هموم مادّية. كبرت وقاربت منتصف الخمسينيات وهو كذلك. وها نحن نستعد لزواج البنت بأفضل إمكانيات. كما تخرج الولد وعمل في جهة مرموقة، وأتمنى أن يجد شريكة الحياة المناسبة قريباً.

وهنا والآن، وبعد كل ما أعطيته وتنازلت عنه في حياتنا الطويلة، أكتشف مرافقته لامرأة أخرى ونيّته الزواج بها. امرأة من طبقة اجتماعية وثقافية لا تدانيه بأي حال. وليست شابة ناضحة الثورة والجمال والدلال أبداً. وأعرف بأنه ينفق على شروطها المبالغ فيها لإتمام الزواج بلا حساب. بل ينفق على أفراد أسرتها ويجاملهم بسفه طلباً لرضاها.

هل يمكنني وصف اللهيب الذي اخترق قلبي يومها وأحرقه وتركني حطام إنسان؟ هل لأحد أن يشعر بما انتابني أيامها من حرقة الغدر ونكران الجميل؟ هل لأي تبرير أن يبرد هذا اللهيب الذي لا ينطفئ، أو أن يعوض زهرة عمري التي قطفها واعتصر رحيقها كله، وها هو يرميها على أبواب التقاعد لينعم بزهرة خادعة لم ولن يستقطر منها قطرة عسل واحدة، بل سيسقيها بشقاء عمري ونصيب أولادي بلا بادرة تراجع أو ندم أو تردد؟ وهل تعدون مثله رجلاً بعد أن يستولي على شباب امرأة ومالها وجهدها، ثم لا تجد منه بعد حسن العشرة إلا الخذلان والجحود والترك؟ أين الرجولة والمروءة إن لم تجدها مثلي بعد كل ما فعلت؟".

.....

يطرح الطبيب النفسي المخضرم الذي تستشيره هذه السيدة رأياً يستحق التفكير والمناقشة.. يقول:
يا لها من قصة كلاسيكية تصادفنا كل يوم! نراها ونسمعها في محيطنا الاجتماعي فنتألم، ونمصمص الشفاه ونتأسى على أحوال نسائنا البائسة وحقوقهن المهدرة، ثم نردف بالتعزية في معنى الرجولة الذي أصبح ذكرى لا نشم ريحها إلا مع نسائم الماضي الجميل. وأراها في عيادتي طيلة الوقت، فأستمع بأدب وتفهم، وأحاول علاجها بالتدريج للوصول لمرحلة القبول بالواقع، وترميم قلبها المكسور، وجعلها قادرة على مواصلة حياتها بالشكل الذي سترتضيه.

لكنني بعيداً عن المحيط الاجتماعي والعيادة، اللذين يحتّمان الرفق بالمتألم والمطعون، لي رأي أقوله بمنتهى الصراحة لكل من تنوي سلوك مثل هذا الطريق بجهل وقلة خبرة، معتقدة أنها ستحقق لشريكها الجنة التي يتمناها أيّ رجل.

ورأيي هذا ملخصه:
ومَن طلب من سيادتك عند الزواج أن تكوني امرأة بميت راجل؟.. يظل الرجل كائناً ناقص الرجولة حتى يتزوج. وهو يسعى للزواج لتكتمل رجولته. صدقيني.. رجولتنا لا تكتمل إلا بوجود أنثى نحملها ونقوم على رعايتها وتهيئة سبل الحياة لها ولأولادها. هذه هي القوامة المقصودة وليست السيطرة والإخضاع والتضييق كما تتصورين. وهو بالطبع لا يسعى للزواج لمشاركة الحياة مع "مئة رجل" يسيرون معه كتفاً بكتف لصعود مرتفعات الحياة وإقالة عثراتها!

ومن تتباهى بكونها تنازلت وضحّت وأعطت وأغدقت ولم تحمله أي عبء، فقد حرمت رجلها من أطيب ثمرات الزواج للرجل على الإطلاق، وهي الإحساس برجولته وبحاجة أسرته لجهده وكدحه، وفرحتهم بما يجنيه بتعبه ويغدقه عليهم. وهذا لا علاقة له بعمل المرأة وكسبها، ولا بمساندتها لزوجها في أزماته التي تحتم المساندة.

نحن نتكلم هنا عن امرأة تلعب بإرادتها المحضة دوراً مخالفاً لدورها الطبيعي، وتستهلك فيه صحتها ومالها وأعصابها ومشاعرها في أجمل وأكثف مراحل العمر، وتتصور أنها أدّت أداءً عبقرياً، فتفاجأ بانصراف الزوج عنها بعد كفايته وتحققه، ليبحث عن أنثى حقيقية تعتمد عليه لا يعتمد هو عليها.

وإذا سألتِني عما تفعل المقبلة على الزواج وعريسها يأخذ عشرة قروش فقط، فسأقول لكِ أن تتزوجه بعشرة قروش لو كانت قادرة على الحياة بالعشرة قروش. وألا ترضى بالعشرة قروش لأنها تنوي وضع عشرة قروش أخرى وأكثر من عندها، لأنها لا تستطيع العيش بهذا المبلغ أبداً، ولأن الحياة مشاركة و"إيد على إيد تساعد".

تمسكي يا عزيزتي بدورك ولا تفرطي فيه أبداً. يقبل الرجل منا على فكرة الارتباط والمسؤولية ليوفر لنفسه أنثى حنوناً لا يجدها في نفسه، ولا في رفقائه من الرجال. مصدر للاحتضان والسكن والدفء والربت والمواساة والمعاونة بالصبر على ظروفه حتى تتحسن. ولا تجمعي بين الدورين أبداً. لا تتعدي على دوره كرجل، وظنك أنك بذلك تعينينه وتآزرينه. وأقولها لكِ بكل صدق من رجل خبر الرجال وخبر النساء، ورأى من قصص الحياة الكثير والكثير:

لا يمكن بحال أن يحب الرجل منا امرأة تنزع عنه إحساسه برجولته وقوامته، مهما تبدى ذلك في صورة عشرةٍ طويلة وعطاءٍ سخيٍ بلا مقابل. وسيظل جرح كبريائه وحاجته لأنثى تلتزم بدورها قائماً، حتى يجد الفرصة ولو بعد حين.. فتنبّهي.

...

وأطرح أنا هذا الرأي على زوجات ثلاثينيات أعرفهن، فيؤيدن أنهن بالفعل يتخلين عن الكثير من أنوثتهن مع أزواجهن في سبيل المشاركة في عبء الحياة المادّي، وأنهن يلاحظن عزوف الرجال المتعمد عن الشكر المستحق لمثل هذا الجهد الذي يتفضلن به. بل كثيراً ما يجدن من الزوج ميلاً لإظهار الثغرات وأوجه التقصير وكأنه ينفس عن ضيق مكتوم.

فهل حقاً نقوم بخلط بائس للأدوار، ونفرّط في الجوهري في سبيل الشكلي، ونضيع أعمارنا على الوجه الخطأ ثم نبكي اللبن المسكوب؟ ما رأيكم؟!

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى