أعلام الأدب (4): سومرست موم

أعلام الأدب (4): سومرست موم

15 اغسطس 2019
+ الخط -
في اللقاءات الثلاثة الماضية، تعرفنا إلى نشأة سومرست موم وإنتاجه، ثم تطرقنا إلى سجاله مع النقاد وطريقته في الكتابة، والآن نقف مع المحطة الأخيرة، وآثرنا فيها أن نلقي الضوء على شخصيته وانتظاره الموت طويلًا. سيفتح لنا موم قلبه، مثلما عهدناه، ويخبرنا بأمور شديدة الخصوصية، ويقدِّم شهادته دون مواربة ولا تحرُّج.

الحياة الشخصية:
ليس عندي ما أخفيه، وحياتي الشخصية ليست لغزًا، فقد اقترفت خطأ فادحًا يوم قررت الزواج، لا أقولها على سبيل التندر، إنما أقرر حقيقة كابدت توابعها بكل معاني المرارة والبؤس. تزوجت سيري برنارد سنة 1915، ولم يدم زواجنا طويلًا؛ فطلقتها سنة 1927، ومن وحي هذه التجربة المريرة والمؤسفة، كتبت "النظر إلى الوراء" عام 1962، آخر عملٍ نشر لي في حياتي.

أنجبت منها ابنة تدعى ليزا، المعروفة بالليدي جون هوب، وتبرأت منها وأنكرت بنوتها وقد شارفت على التسعين، بعدما تأكدت أن سيري كانت تخونني مع كثيرين، ولم أستغرب خيانتها. قال موم الجملة الأخيرة وقد شخص بنظره بعيدًا، وغاب بين طيات الصمت هنيهة، ولم أستعجله في مواصلة السرد؛ فإن هاتفًا من الماضي استرعى انتباهه لحظتها.


ثم عاد موم من سكرة الذكريات ليواصل الحديث، لم أسأله عن مبعث سرحانه، ربما ظن أنني أبله إذ لم أفاتحه في الأمر، لكن ما لا يعلمه موم وما لم يقله قد عرفته، عرفته من ناقد جهبذ يعيش في الظل، ويتحاشى الأضواء والشهرة، يعيش في مقابر الإمام الشافعي ويدعى "فؤاد ميموري".

قال ميموري: "ما لن يخبرك به موم أنه كان على علاقة بسيريل قبل زواجهما، يومها كانت سيريل (22 عامًا) زوجة صاحب شركة أدوية، يدعى هنري ويلكوم (48 عامًا) وتحمل اسمه، ولم يكن زواجها من موم إلا بعد رفع ويلكوم دعوى طلاق، لهذا السبب لم يستغرب خيانتها له، ولم يدم زواجهما لاعتبارات كثيرة لا علاقة لها بالنخوة أو الغيرة، إنما على رأسها ميوله الجنسية المثلية، وقد عرفت الأوساط الأدبية علاقة موم المثلية بسكرتيره الأميركي جيرالد هاكستون، ثم ديفيد بوسنر".

أما موم فيتناول علاقته بابنته البيولوجية كما يطلق عليها، ويعود بنا إلى سنة 1950، ويتذكر: "خصصت مبلغ 500 جنيه سنويًا تمنح لأي كاتب إنكليزي شاب يبشر بمستقبل أدبي، لينفقها في رحلة توسِّع مداركه، بعدما رأيت من أهمية السفر على فكر وتصور الكاتب، وما يهيئُه له من آفاق فسيحة في عالمي الخيال والفكر؛ فأشعلت ليزا حربًا ضروساً في الصحف والمحاكم، بدعوى أنها أولى بما أنفقه على الآخرين!

يواصل موم: كنت أقول لمن حولي من شباب الكتّاب "إن الحياة عند الفنان مأساة يلذ له أن يتطهر بها، عن طريق موهبة الخلق فيها، إنها الطهر الذي وصفه أرسطو بأنه هدف الفن، يستطيع الفنان بواسطته أن يتخلص من الحسرة والرعب". في هذا الإطار، يعلِّق فؤاد ميموري بأن موم آمن بمبدأ اللذة، كل لذة، بما فيها اللذة الفكرية، وآمن بالمنفعة الخاصة، لا تعنيه المنفعة العامة، يرى أن "الأخلاق التي يقرها المجتمع مفيدة للضعفاء، أما الأقوياء فإنهم يصنعون قانونهم الأخلاقي"، ولا يُظهر شخصيات قصصه وكأنها مسؤولة عما وصلت إليه، بل هي رهينة الظروف مجبرة على ما تمارسه من أفعال مهينة أو سلوكيات مشينة؛ فالمتهم عنده المجتمع وليس الفرد.

بصفته الطبية وخلال الحرب العالمية الثانية، عمل ضد النازية وسُجِّل اسمه في قائمة جوزيف غوبلز السوداء، في تلك الأثناء كتب حد الموسى. وقتها، عمل في المستشفيات الميدانية مع إحدى وحدات نقل الجرحى، وخلال وجوده في سويسرا عمل مخابرًا سريًا مدة عام، وبعد عمله في المخابرات بـ12 سنة، كتب رواية "أشندن".

ورث عن أبيه قطعة معدنية وجدها في جبال أطلس، تمثل اليد الإنسانية، يعتقد القوم إنها تطرد الأرواح الشريرة، وحرص على وضع صورة هذه العلامة على كل مطبوعاته من كتب وأوراق، وعلى باب فيلا مورسيك؛ فقد تفاءل بها.

يرى فؤاد ميموري أن طريقة الروائيين لا تكسبهم الأصدقاء دائمًا، وإن كان موم يحتفظ بدائرة ضيقة من أصدقاء، ينادونه "ويلي"، ولم تتسع دائرة أصدقائه لأسباب منها حبسة لسانه التي حالت بينه وبين المجتمع، وآراؤه في الدين وقلة اكتراثه بمشاعر الآخرين؛ فكان يعلن إلحاده دون مواربة. ويضيف ميموري نقلًا عن مصادره الخاصة والموثوقة أن موم لا يحب أحدًا ولا يحب شيئًا، وأنه قال غير مرة إنه لم يجرِّب في حياته أسمى أنواع السعادة، وهي مجازاة الحب بالحب.

ويتفق "هـ. إييتس" مع ميموري؛ ففي كتابه "القصة القصيرة الحديثة"، يقول: "إن موم ينقصه العطف، وليس له قلب، ويخالجني شعور أنه يستعمل في مكان القلب آلة". كان ضاويًا قميئًا، عيناه الرهيبتان أبرز سمات وجهه، تتبين ذلك في صورته المشهورة على الإنترنت بريشة جراهام سذرلاند، وغلبت عليه النزعة التشاؤمية والفلسفة الكلبية.


ومع كل ذلك، كان موهوبًا في أسلوب السرد وطريقة إعداد العقدة، قُدِّرَ دخله بعشر جنيهات في الدقيقة، وبلغت ثروته عشرات الملايين من الجنيهات، صنعها بقلمه الساحر. حقق صيتًا واسعًا في اليابان والصين وروسيا، وقل الاهتمام الأدبي به في وطنه مقارنةً بتلك الدول، واختار الإقامة في فرنسا، لما تمثله له من الذكريات القديمة.

أما قصره على نهر الريفيرا، يطلق عليه "فيلا موريسك Mauresque" على رأس داخل البحر المتوسط، في منتصف الطريق بين نييس ومونت كارلو، خلفه جبال الألب وأمامه البحر الأبيض المتوسط، مصمَّم على الطراز الأندلسي، به الرِّياش النادر الثمين، ولوحات بريشة رانوار، ماتيس، واتريلو، بيكاسو، مونيه وغوغان.

حبسة لسانه:
وصف سومرست موم حبسة لسان معاصره الروائي النقادة، أرنولد بينت، وكان يكبر موم بسنواتٍ سبع، ويعد هذا الوصف بمثابة وصف ذاتي؛ فإن موم يشترك مع بينت في حبسة اللسان، يقول موم "يعرف الناس أن أرنولد كان مصابًا بحبسة شديدة، وكان مما يؤلم مراقبته وهو يتكبد المشقة في الحديث؛ فما كان عند الناس سهلًا كالتنفس، كان يتطلب منه على الدوام جهدًا غير هيِّن، كان يمزق أعصابه شذر مذر، وقليلون الذين عرفوا ما كان يعرضه ذلك الشعور بالذل والهوان والسخرية منه".

وأضاف موم "سخريةٌ منه عند كثيرين، وقلة صبر كانت تشعره بالارتباك، قليلون من عرفوا جحيم الغضب المسيطر على النفس عندما يود الإنسان تقديم ملاحظة مسلية أو خاطرة مناسبة، لكن حبسة اللسان تمنعه من ذلك؛ فيُحجِم عن قولها خشية أن تفسدها لكنته، وقليلون تمكنوا من إقامة حاجز يحول دون اتصالهم بالناس وإسقاط الكلفة، ربما أرغمت الحبسة أرنولد على تجنب الناس، وربما لها الفضل في احترافه الكتابة، ولكني أظن أنه دلالة معبرة على قوة خلق أرنولد وإصراره".

كان موم يعشق القانون، وورث هذا الحب عن والده، لدرجة أنه حاول أن يصبح محاميًا مفوهًا، لكن حبسة لسانه حالت دون ذلك. كانت اللثغة خللًا جزئيًا أيام شبابه، لكنه بالتمرين المستمر تغلب عليها، وكنت تستطيع ملاحظة ذلك في وجهه، حتى في الوقت الذي لا يتلعثم فيه؛ فإن الزوايا السفلى من فمه منقبضة بقسوة. ظلت عقدة لسانه إلى عام 1941 إذ عالجه الطبيب نفسه الذي عالج الملك جورج السادس، ولعلك تسأل: وكيف لي أن أعرف معاناة جورج السادس؟ وللجواب أحيلك إلى فيلم "خطبة الملك" للنجم البريطاني كولين فيرث.

في انتظار الموت:
في كثير من قصصه، جعل الموت شاغله الشاغل، وزخرت حياته بكثير من التأملات النفسية في الثلث الأخير من حياته، يقول موم: يلعب الموت دورًا كبيرًا في كتاباتي، وتلحظ ذلك في روايتي "عبودية الإنسان"، المنشورة سنة 1915، وترجمها بعض العرب إلى "الإنسان في الأسر" وترجمات أخرى أسلفت الحديث عنها في لقائي الثاني معكم قبل أيام.

مع وصولي سن الستين، اعتزلت الكتابة المسرحية، وبدأت أرتب أوضاعي للرحيل الأخير منتظرًا الموت، ونشرت طبعةً شاملة لمؤلفاتي من القصص القصيرة والروايات الطويلة والمسرحيات، لم أضمِّنها كل ما نشرت، بل ما اعتبرته يستحق أن يُنسب إليَّ في المستقبل، ووضعت لكل جزءٍ منها مقدمة شارحة، تناولت ملابسات تأليف الكتاب ونشره.

لم يأتِ الموت؛ فدوَّنت آرائي وخبراتي وتأملاتي النفسية، وجمعتها في كتاب "الحساب الختامي" -أو كما يترجمه البعض منكم "التلخيص"- وفيه تفسير لأعمالي وحياتي، أزمعت أن أختم به حياتي الأدبية. وللمرة الثانية، تأخر عني الموت؛ فقررت زيارة حي لامبث والكتابة عنه، بعد كتابتي قصتي الأولى "ليزا من لامبث" بـ50 سنة، وأعددت خطة الكتاب ولم أكمله، ليس لأن الأجل باغتني، إنما لأن الحكومة والحرب غيَّرت طبيعة الحي، وتغيَّرت حياة ساكنيه تغيُّرًا تامًا.

في عام 1944، بلغت عامي السبعين، ولم يدق الموت بابي؛ فنشرت بعض ملاحظاتي وآرائي حول ما لم أنشره قبلًا من قصصي ومسرحياتي، ثم أعلنت عن كتابين أو ثلاثة ربما تنشر وربما أعدل عن نشرها. تناول موم فنجان قهوتي؛ فاهتبل فؤاد ميموري الفرصة وهمس في أذني "يومها قال إنه قد عاش حياته وإنه مستعدٌ لملاقاة الموت، ومضت سنواتٌ خمس، وهو باقٍ على انتظاره وزاد أربع صفحات قال فيها إنه نشر ثلاثة كتب ولن ينشر الرابع! وأضاف إن عظمة الإنسان حقًا في شجاعته ومواجهته الموت".

واستأنف موم: وفي ختام كتابي "مذكرات أديب" سنة 1949، كتبت: (إنني كالمسافر ينتظر السفينة في ميناءٍ أيام الحرب، لا يعرف متى تقلع، لكنه مستعدٌ للرحيل في أي وقت، لا لأتفرج على مناظر المدينة، ولا أريد أن أرى الطريق السريع الجديد؛ لأني لن أسير فيه، ولا المسرح الجديد بكل معداته؛ لأني لن أجلس فيه، أقرأ الصحف وأقلِّب صفحات المجلات، ولكني أرفض إذا عرض أحدهم أن يقرضني كتابًا أقرؤه؛ فقد لا أجد الوقت لأتمه، ولست مستعدًا للاستغراق فيه، وأمامي هذه الرحلة، وقد أتعرف بالناس في بهو الفندق، أو على مائدة الورق، ولكني لا أحاول أن أكسب صداقات جديدة لنفترق بعد قليل، أنا راحل).

وبينما انزوى موم ليرد على مكالمة يبدو من هيئته أنها حميمة، صرخ فؤاد ميموري بصوت فيه رائحة الغيظ: "لكنه، ويا لحظه! لم يرحل حينها، بل عاش بعدها زهاء 16 عامًا بتمامها، لم ينشر خلالها شيئًا، وأعلن أن معين خياله قد نضب إلى الأبد، وعدل عن تأليف الكتب إلى المقالات والبحوث القصيرة، تناول فيها الأدب والأدباء والقصة القصيرة، وكتَّاب القرن الثامن عشر". واستطرد فؤاد ميموري: "قيل إنه أعدم كل ما لم ينشره من أعمال أو مذكرات، لم يشأ أن يترك خيوطًا تشي ببواعث موهبته الفنية، أو أخرى قد تقود إلى نقاط ضعف في أعماله الخالدة".

وأنهى موم مكالمته، واستوى في جلسته ليقول: "إنني أعرف أن عددًا عديدًا من الناس ينتظرون موتي؛ ليكتبوا قصة حياتي، فقد طالت إقامتي أكثر من اللازم، وخيبت آمالهم غير مرة". قلت يومًا لصديقي، كارل بفيفر Karl Pfeiffer أستاذ اللغة الإنكليزية بجامعة نيويورك: "ستكون رجلًا غبيًا إذا لم تحاول أن تستغل صداقتك لي، وتعكف على وضع مرجع دقيق لتاريخ حياتي، تستطيع أن تجني من ورائه ثروة طائلة".

أضاف ميموري: "لاحقًا كتب بفيفر صورة صادقة لموم، وكانت مرجعًا على نحو يرضي صاحب الصورة، ممن كتبوا عنه أيضًا بول دوتن، دزموند مكارثي، كلاوس جوناس، كارل بفيفر، وريتشارد كورديل".

أمضى سنواته الأخيرة بين قصر الريفيرا والبيت الذي يملكه في ولاية كارولينا الجنوبية، وجناحه الخاص في فندق دورشستر لندن؛ فلم يملك بيتًا في موطنه الأصلي بريطانيا، كان يزورها زيارة السائح. يوم 24 يناير/كانون الثاني 1962، في عيد ميلاده التسعين، بقصره الكبير، قرر موم اعتزال الكتابة وقال "لقد جفَّ قلمي، وسأكتفي الآن بالقراءة"، بعدها بيومين كان سكرتيره يقرأ عليه قصة بوليسية! وفي ذلك يقول موم "إن مغامرات أبطال هذه القصص تذكرني بشبابي".

توفي في 16 ديسمبر/كانون الثاني 1963، نتيجة الالتهاب الرئوي، بمستشفى الأنجلو-أمريكان بمدينة نييس، أوصى بإحراق جثته وألا يصلى عليه، ذلك لأنه اعتنق اللاأدرية وفضّل أن يعيش ملحدًا. في تأبينه، قال ونستون تشرشل "إنه شخصية عظيمة لن تتكرر، لقد كانت معرفتي به، وصداقتي له أعظم تجربة في حياتي".

وقبل أن نودِّع سومرست موم، كان قد توسط لنا عند أستاذه؛ لنظفر بلقاء حصري في أقرب وقت ممكن، ووافق أستاذه "غي دو موباسان"، وفي اللقاء المقبل نتعرف إلى هذا الرمز المؤثر والمتفرِّد في دنيا الأدب، والملقَّب بـ"تشيخوف فرنسا".

دلالات