7 أكتوبر.. فصل جديد في تاريخ الأدب!

7 أكتوبر.. فصل جديد في تاريخ الأدب!

10 فبراير 2024
+ الخط -

هل نحن في حاجة إلى اتخاذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تاريخًا فارقًا؟ اللهم نعم.

ومن دون مقدمات، قسّمت الجغرافيا العالم إلى شرق وغرب، أو هذا ما درجت عليه أمم الأرض، ولحكمة في يد ربّ المقادير ينعم الغرب ماديًّا (أو هكذا نراه)، بينما يشقى بنو جلدتنا. وأحد أهم أسباب هذا الشقاء ما حرّك المياه الراكدة في 7 أكتوبر، إنّه البحث عن الحق المسلوب، وكثيرًا ما روّجت آلتنا الإعلامية أن "الحق المسلوب يُنتزع ولا يُطلب"، ثم تغيّرت طبيعة الشعارات وَفق الأهواء والمصالح إلى "سنحيا في أي ناحية". ولعلّك تتفق معي في دعواي أنّ العالم توحّد بعد 7 أكتوبر، كيف؟

 تمايز الصّفان إلى مُعتقدٍ بالحق، متضامن معه دون قيد أو شرط، جنوب أفريقيا مثلًا، الدولة التي عانت الأمرّين من التمييز العنصري وناضلت حتى ظفرت بحقها في الحياة الكريمة وطوت صفحة بغيضة من تاريخ هذا التمييز، وقفت شامخةً في صفّ المهضوم حقه. لم يمنعها من ذلك تراخي أصحاب الحق وتطامن بعضهم وخسّته ونذالته، بل لم تعطِ "بدران" قيمة، لا سيّما أنّه خان صديق عمره (أدهم الشرقاوي) وطعنه طعنة نجلاء كادت تودي به، إذ آثر أن يترك أطفالًا ونساءً من بني أمه وأبيه يتناهبهم الجوع والمرض وسلاح العدو، وأخذته الشهامة كلّ مأخذ في مدّ العدو بما يتقوّى به على أهله، فلم تقبض الكفّ بالمعصم.

هذا في دنيا الشرق، أو قل في عالم الجنوب؛ فماذا عن الشمال وأهله؟ لن أحدّثك عن موقف الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف، خافيير مايلي، المخزي والمؤسف، وكذلك القاضية الأوغندية، جوليا سيبوتيندي، ولا ترفع عقيرتك مغضبًا "حتّى أنت يا بروست"؛ فعندنا من عيّنتهما الشيء الكثير، كانوا الكفّ المقطوعة أو الساعد الأجذم، "وَمَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ". لكن في الشمال أيضًا، رأيت الأحرار من كلّ حدب وصوب يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، ليس تعصّبًا للعرب، ولا حبًّا فيهم، إنّما انتصارًا للمبادئ الإنسانية، وإلا فلا فرق بين الحيوان الاجتماعي والحيوان، لا فرق حينها بين الحيوان الناطق والحيوان، "ما قـيمة الناس إلا في مبادئهم". 

في الشمال، رأيت الأحرار من كلّ حدب وصوب يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، ليس تعصّبًا للعرب ولا حبًّا فيهم، إنّما انتصارًا للمبادئ الإنسانية

تأسيسًا على ما تقدّم، تشكّلت سرديّة جديدة في الولايات المتحدة الأميركية وأيرلندا.. سردية اقتادت الغاصب إلى محكمة العدل الدولية، فنّدت مزاعمه التي يلوكها وأذنابه ليل نهار، أجبرت الرئيس الأميركي، جو بايدن، على ابتلاع غروره، لعلها أعادت إليه بعضًا من صوابه البراغماتي، إذ أدرك أنّ موقفه في الانتخابات بات هزيلًا، لا سيّما لاستماتته طويلًا في دعم بنيامين نتنياهو والحرب على غزة، إذ مُرّر للرأي العام امتعاضه واستياء وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، من القتل الذي جاوز الحد، كلّ ذلك وجماعتنا "نؤوم الضحى"، أو راقدو الكهف (وَكَلْبُهُم بَٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلْوَصِيدِ).

فإن سأل سائل: ما علاقة الأدب بهذه القضية الشائكة؟ فلن نتبرم من سؤاله أو نسفّه قالته، إنّما سيتطلّب الجواب عن ذلك أن نعرض سريعًا لأمور ذات صلة، ترمي في دائرة الإجابة المرغوبة، وليعلم القارئ الكريم أنّ الاستطراد أساس ركين في تجميع خيوط الإجابة وكشف بعض المبهمات وإزالة اللبس.

خلال دراسته في فرنسا، عاش زكي مبارك في أروقة الحي اللاتيني، ذلك الحي الذي قضى فيه سهيل إدريس بعض سني عمره، فكتب رواية تحمل الاسم ذاته (الحي اللاتيني)، الرواية المعدودة ضمن أفضل 100 رواية عربية وفيها ما فيها! وتصوّر العَلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب، مثل روايات "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.

ستجد أغلب إن لم يكن جميع من كتبوا في هذه العلاقة عاشوا بعضًا من أحداثها، فمثلًا يحيى حقي عاش في فرنسا، وزار عددًا من البلدان إبّان عمله في السلك الدبلوماسي، وهو من مواليد حي السيّدة زينب، فوجد بين الثقافتين بونًا يستعصي على المزج اليسير، وسطّر ذلك في عمله الذي انتصر في نهايته إلى الشرق. توفيق الحكيم، وهو زميل حقي في الدراسة الجامعيّة (وإن لم تتصل أسبابهما خلالها، وتعرّفا إلى بعضهما لاحقًا)، زار فرنسا لدراسة الدكتوراه في الحقوق، ثم عافتها نفسه إلى غير رجعة، وانكبّ على دراسة تاريخ الفنون، وكتب "عصفور من الشرق".

يجب علينا أن نؤطر معاناة أهلنا في فلسطين وما كابدوه خلال ما يزيد على أربعة أشهر تحت سمع العالم وبصره، وأن يقترن ذلك بحركة ترجمة تنقل آلام البسطاء من أبناء فلسطين

الطيب صالح عاش مدّة في لندن، وعمل في هيئة الإذاعة البريطانية، وهو خال الروائي الدكتور أمير تاج السر، بعد هذا التَّطواف أخرج لنا من جَعبته رائعة "موسم الهجرة إلى الشمال"، وفيها الصراع ذاته والجدل بين عالمين متمايزين. 

في هاتيك الأيّام، تولّى رجاء النقّاش مهمّة التعريف بهذا الأديب، وقدّمه للقراء في مصر والعالم العربي، وهو الذي قدّم محمود درويش وسميح القاسم للقرّاء في مصر، وكان وديع فلسطين أوّل من نبّه إلى موهبة شعرية فذّة يقال لها نزار قبّاني، ودافع عنه أمام حملة زعمت أنه "شاعر الفساتين"! والحال هذه، طُلب إلى سليمان فياض أن يكتب عن هذه الثنائية؛ الوطن والاغتراب، الشرق والغرب، نحن وهم، وما إليه، لكن لم يخض التجربة أو يرتمي في أتونها، فلم يستجب لتلك الدعوات، وكثيرة هي الدعوات التي تحضّ المرء على دخول مساجلة أو اقتحام مجال، غير أنّ الثقة بالنفس ومعرفة حدودها أولى من اتباع كلّ داعٍ.

وليسمح لي القارئ العزيز باستطراد آخر سريع: بأيّ حقٍّ يستسيغ بعضهم كتابة (النحن) و(الهُم)؟ تذكرةً لمن يعلم وتنبيهًا لمن لا يعلم، فإنّ، نحن وهم، من الضمائر، والضمائر من المعارف؛ فكيف تعرّف المعرفة؟ وقد قيل "المعروف لا يُعرّف"، وقيل "تعريف الواضح أمرٌ فاضح"، ولعلّها سنّة مرذولة ساقتها الترجمة! فإن قلت لماذا يقال: الأنا؟ فإن الجواب باقتضاب أنّ كلمات (الأنا والهُو والأنا العليا) دخلت مجال علم النفس، صارت مصطلحات دالّة عليه في بعض جوانبه، "ولا مشاحة في الاصطلاح"، فإن كان في ذلك ما يشفي الصدر فلا أقل من أن ننتبه لهذا ونحيد عنه، وإن كان غير ذلك فنلهج بلسان الحال والمقال (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ).

إن كان ما قاله أمير الشعراء يتردّد صداه إلى الساعة "كلّنا في الهَمِّ شرق"، فإنّ لنا أن نقول لمن دعمنا في القضية الفلسطينية، لا سيّما بعد أحداث 7 أكتوبر، "كلّنا في الحقّ أهل"

بعض ملامح رواية "الحي اللاتيني" تذكّرك بمحمد شكري و"الخبز الحافي"، وكذلك رؤوف سعد و"بيضة النعامة"، رواية إيروتيكية. إنّها بالأحرى سيرة ذاتية، ولعلّ في ذلك ما يحيل إلى التراث، إذ إنّ ابن النديم (صاحب "الفهرست" الذي جمع أسماء مؤلفات الكتّاب ممن سبقوه وعاصروه، مقرونة بترجماتهم) لم يكتب عن نفسه شيئًا، ولا تجد في كتب من أفادوا منه ومن سِفره إلا نُتفًا يسيرة لا تشفي الغليل، جاء أناس من بعده فأدركوا (بالعقل الواعي أو اللاواعي) أنّ غيرهم لن ينشغل بهم؛ فعمدوا إلى وضع تراجم إضافية عن أنفسهم، ويعدّ الأمير أسامة بن منقذ أول من سطّر سيرته الذاتية في "الاعتبار"، وفي القرن السابع تجد الإمام الشوكاني يكتب عن أعلام عصره، ولا يجد غضاضة في إدراج اسمه بينهم، وعلى طريقة زهير بن أبي سُلمى "وَمَنْ لَم يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لَم يُكَرَّمِ".

ونعود إلى ما استطردنا عنه فنقول إنّ الأدب المعاصر في عشرينيات القرن الماضي وما بعده ارتكز على أنا والآخر، الآخر هنا يشير بدرجة كبيرة إلى الغرب، هذا العالم الذي يختلف عنّا فكريًّا وعقائديًّا ويسبقنا علميًّا وعمليًّا، يرى كثيرون من بني جلدتنا أنّنا لن نجاريه في بعضها ولو تضافرت جهود المخلصين، الآن وعلى وجه الدّقة بعد 7 أكتوبر تغيّرت هذه الثنائية لتُمسي حق الشعوب في الحياة مقابل غطرسة الصهاينة واغتصابهم الأرض والعرض، من هنا يجب أن نؤسس لفصلٍ جديد في تاريخ أدبنا العربي، هو ليس جديدًا بالكلّيّة، إنّما المراد أن نركّز على هذا الجانب، أن نؤطر معاناة أهلنا في فلسطين وما كابدوه خلال ما يزيد على أربعة أشهر تحت سمع العالم وبصره، وأن يقترن ذلك بحركة ترجمة تنقل آلام البسطاء من أبناء فلسطين (في غزّة وخان يونس والجليل والناصرة والقدس) وكلّ شبر من أرضها الطاهرة، وأن نترجم للعربية نضال الشعوب الأخرى التي وقفت صلبةً في وجه العدوان وردّت كيده في نحره، وهذه مهمّة الشخصيّات العامة والمؤسسات الغيورة على أمتنا وهُويتنا والحق الإنساني في الحياة، وعلى عمارة الأرض.

إن كان ما قاله أمير الشعراء يتردّد صداه إلى الساعة "كلّنا في الهَمِّ شرق"، فإنّ لنا أن نقول لمن دعمنا في القضية الفلسطينية، لا سيّما بعد أحداث 7 أكتوبر: "كلّنا في الحقّ أهل"، ومن واجب الأهل أن يتقرّب بعضهم إلى بعض وأن يواصلوا السعي للظفر بحقوقهم، مثلما فعلت الشقيقة جنوب أفريقيا، وإن غدًا لناظره قريب.