رحلة دراويش الكبة من إدلب إلى حلب

رحلة دراويش الكبة من إدلب إلى حلب

18 يونيو 2019
+ الخط -
قال أبو بدر الذي استضافنا في مطعمه الجديد بحي (Batışehir) ما معناه أن سهرات "الإمتاع والمؤانسة" التي تُعقد هنا في إسطنبول تبدو وكأنها مخصصة للذكريات السورية القديمة.. وأضاف: وكأني نحنا السوريين ما منريد نعترفْ بالحياةْ الجْديدة اللي عم نعيشها هون في هالمنفى.

قال كمال: كلامك صحيح أخي أبو بدر. ولكنْ - لعلمك- إنو إطلاقْ اسم المنفى على إسطنبول غير دقيق. أنا عمري هلق 55 سنة وطول ما أنا عايش في سورية كنت إحلمْ إني زُوْرْ إسطنبولْ ولو إنو لمدة أسبوع، ولما جيت وسكنت فيها تفاجأتْ بأنو أبناء العواصم الأوربية الكبيرة وأبناء الخليج العربي كلهم بيحبوا يمضُّوا أيامْ الصيف في إسطنبول. يمكن لأني نحنا جايين لهون غصباً عنا عم نسميه "منفى".

قلت: سواء كان وجودنا هون إجباري أو اختياري، منفى أو سياحة، المهم برأيي هُوِّي الذكريات اللي عم نسترجعها، ودائماً منلاقي متعة كبيرة في الحديث عنها. يا شباب، نحن في الأصل فتحنا سيرة الاتصالات والمواصلات اللي كان إلها في سورية قصص وحكايات غريبة. فإذا سمحتوا خلونا بهالموضوع. وإذا ما عندكم مانع أنا بحكي لكم قصة معبرة.


قال أبو جهاد: من تأليفك؟
قلت: لا والله، قصة واقعية جرت أحداثها في الستيناتْ. زوج عمتي "أبو لؤي بدلة" سمع إنو جارهم "محمد خير" اللي عم يخدم عسكريتو في الشام بدو يسافر من إدلب للشامْ، فطلب من عمتي أم لؤي تعمل كبة مقلية (دَرَاوِيْشْ) حتى يبعتوها لإبنُنْ مازن اللي عم يدرس أدب إنكليزي في جامعة دمشق.. عملتْ عمتي الكبة وحطوها في سلة (قَرْطالْ) وغَطُّوها بقماشة بيضا، وكتب عليها جوز عمتي: إلى ولدنا الغالي مازن بدلة.

ضحك أبو محمد وقال: نعم. في هديكة الأيام كنا نبعت لأولادنا زوادات حتى ما ينحرموا من الأكلات الطيبة. هلق المطاعم صار فيها كل شي، حتى الكبب، وما عاد في داعي تعذب حالك وتبعت.

قلت: اسمعوا القصة. الشاب العسكري "محمد خير" أخد القرطال وراح على حلب، لأنو بهديكة الأيام ما كان في سفر مباشر من إدلب للشامْ. وفي كاراج الانطلاق بحلب نسي القرطال وتابع طريقو للشام. عمال التنظيفات الموجودينْ في كاراج الانطلاق عثروا على قرطال الكبة اللي مكتوب عليه مازن بدلة، وسلموه لرئيسهم اللي بمجرد ما شاف كلمة (بدلة) تْذَكَّرْ جارو في البناية الأستاذ "مرشد بدلة" الموظف بمديرية التموين بحلب. فشال القرطال وأخدوا معو، وسَلَّمُو لمرشد.

ضحك الحاضرون وقال أبو إبراهيم: قصتك رايحة تصير ملحمة!

قلت: صدقاً القصة هيك صارت بلا زيادة ولا نقصان. في اليوم التالي مرت سيارة التموين على مرشد، فَنَزَّلْ معو قرطال الكبة المقلية، وحطو في الباكاجْ، وقال للشوفير (مر بطريقك عَ البنك المركزي)!

فقعوا ضحكة مدوية وقال أبو الجود: يمكن بدو يطالع قرض على قرطال الكبة، يا إما بدو يحطو وديعة في البنك؟

قلت: لا هاي ولا هديكه. لاكن الأستاذ مرشد بيعرف أنو "طريف بدلة"، شقيقو لمازن موظف في البنك المركزي، وهيك بيكون سلمو القرطال وتخلص من هالعبء الثقيل. ولما طريف استلم القرطال وقع بمشكلة إلها أول وما إلها آخر، وصار يسأل حالو: أشو قصة هالقرطال؟ وكيف وصلْ لعند ابن عمي مرشدْ؟ وليش ما تابع طريقو لعند مازن ع الشام؟.. المهم، لما انتهى الدوام شال "طريف" القرطال وراح عَ البيت، وأول شغلة عملها أنو اتصل بمقسم الهاتف القُطْري، وطلب رقم أهلو في إدلب، وقال لعامل المقسم: بالله سجل لي مكالمة لإدلب (مستعجلة)!

قال أبو جهاد: كانت تسعيرة المكالمات المستعجلة أعلى من تسعيرة المكالمات العادية، ومع هيك كانت المستعجلة تتأخر ساعتين أو تلاتة، أصلاً ما في أي ضرورة الواحد يسجلها مستعجلة ويدفع رسوم إضافية.

قلت: في حدود الساعة 11 ليلاً أجت المكالمة، وركض طريف ع الهاتف وصار يصيح ألو ألو.. لكن الظاهر أنو عمتي أم لؤي وزوج عمتي أبو لؤي ناموا. وتاني يوم الصبح راح طريف ع البنك، وعاود الاتصال بأهلو، وفي النتيجة تمكن من التحدث معهم. وأبو لؤي لما عرف إنو قرطال الكبة صار عند طريف فهم القصة، وسألو:

- وكيف شفتلي دروايش الكبة اللي عاملتُن أمك؟ ظراف مو؟
فرد عليه طريف: والله ما بعرف. لأنو ما أكلناهن.
فقال له: غريب أمرك. أيش يمنعك إنته ومرتك وبناتك تاكلوهن؟

الخلاصة: لما انصرف عمال البنك المركزي راح طريف عَ البيت، وقال لزوجته: اليوم راح نتغدى من الكبب. ولما فتحوا الغطاء عن القرطال لقوا العَفَنْ الأبيض والأخضر متراكمْ على دروايش الكبة.. ووقتها ضحك طريف وقال لزوجته:
- منرميها على مسؤوليتنا في القمامة، ولا منحاول نتصل بأبوي وأمي ومنسألهم النصيحة؟!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...