درس جاهلي (2)

درس جاهلي (2)

29 مايو 2019
+ الخط -
"من استبد برأيه هلك"، حكمة تناقلها الناس طويلًا، ربما لم يسمع بها رجلٌ من البحرين، واسمه عمرو بن العبد البكري، وأنت تعرف لقبه الأول والأشهر "طَرَفَة"؛ إنه طرفة بن العبد، ومن خلاله نفيد منه درسًا يؤطر لكثير من جوانب حياتنا؛ فالسعيد من اتعظ بغيره.

ولعلَّك تسأل نفسك: ولماذا أتعلم من جاهلي قُح وبين يدي هذا الكم الهائل من التكنولوجيا؟ وسؤالك وجيه على كل حال، لكن تريث قليلًا ثم احكم، ودع عنك الأحكام المسبقة. اطرح عنك التشبث بفكرتك والتعصُّب لها حد العمى، وثق أن طرفة سيقدم لك نصيحة ليست بالهيّنة ولا الهامشية، وأنت - وأنا مثلك - لا تملك الحقيقة المطلقة، وجميعنا بحاجة إلى الاستماع لآراء الآخرين، لا على سبيل الاستئناس بل على سبيل الإفادة والاسترشاد، وما خاب من استشار.

بعدما فحص الأطباء الشرعيون جثة طرفة تسابقوا ليكتبوا تقاريرهم، كلهم جلس منفردًا ليخرج بأفضل وأدق تقرير حول ملابسات الوفاة، وبعد دراسة تحليلة للتقارير كانت المفاجأة، وأذاعت الشاشات الصغيرة الخبر فاستولى على اهتمام المشاهدين في ربوع العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وترجم بعضهم للأمم الأخرى لتتدارك المحنة.

ماذا كتب الأطباء ليحدث كل هذا الاهتمام؟ لقد كتبوا جملة واحدة "قتلته الدوغمائية"، وطفق المحللون يقلِّبون الأمر على وجوهه، ويعصرون عقولهم ليخرجوا علينا بإيضاحات وتفسيرات أكثر إفادة؛ فارتأوا أن يعقدوا مؤتمرًا صحافيًا ليفسروا لنا نكبة ابن العبد ويسلطوا الأضواء على عدد من القضايا ذات الصلة.


وخلاصة ما عرضه المؤتمر - وأدفع عنك ملل الإطالة - أن طرفة بن العبد كان منقطعًا برأيه منفردًا به، وأحال المؤتمِرون ذلك لحداثة سنه وقلة تجربته؛ فقد قُتِلَ في سن السادسة والعشرين - ولذلك لقِّب بالغلام القتيل - ولو أنه تمتع بقدرٍ يسير من المرونة لعاش مدة أطول، وبرهن المتحدث على رأيه بما جرى بين طرفة وبين خاله المتلمّس، واسمه جرير بن عبد المسيح؛ ليؤكد صدق نظريته حول تورط الدوغمائية في وضع حدٍ لحياة الغلام القتيل.

يبدو أن طرفة قد حاز تأشيرة دخول الحيرة (جنوب وسط العراق، قريبًا من محافظتي النجف والكوفة)؛ ليأنس بالملك عمرو بن هند ويحصل على عطاياه السخية، وتمتع بالعمران والتقدم النوعي في عاصمة المناذرة، وسرَّه أن يلقى خاله المتلمّس، وكان قد حصل على التأشيرة قبله بسنوات، ولما توفي أبو طرفة في صغره؛ فقد أحسَّ طرفة في خاله المتلمّس بعضًا من الدفء العائلي، لاسيما وأنهما غريبان في أرض الحيرة.

تغيرت نفس الملك على الرجلين بعد مدة، وهذه حالة معروفة في معظم الملوك وأولي الأمر، وفي سخطهم تُظلم الدنيا على من يتقصدونه؛ فيرمونه بالإرهاب ومحاولة قلب نظام الحكم، أو تكدير الأمن العام وترويع الآمنين، أو الانتماء لحركات لا مؤاخذة، ولن يعدموا حيلة ولا وسيلة. حانت لحظة المزاج السيئ وسيطرت على الملك، لم تكن لحظة عابرة وأجج نارها أن طرفة شاب مندفع، لم يحلب الدهرُ أشطره، ولم تسبكه تصاريف الأمور.

لم يكن حنق الملك على طرفة من فراغ؛ فقد وقعت عينا طرفة على أخت عمرو؛ فلما دارت الكأس برأسه نظم شعرًا يتغزل بها، وتعكرت الأجواء ولاحت غيوم سوداء، وهجا طرفة الملك وأقذع في هجائه، ولم يجد المتلمّس بدًّا من مناصرة ابن أخته؛ فطلبهما الملك ولم يقف لهما على أثر، وقرر أن يكيد لهما ليوقع بهما. تظاهر عمرو بن هند بالصفح عنهما والتسامح معهما، وكتب إلى عامله على عُمان والبحرين ويدعى "المُكعبَّر" كتابًا لكلٍّ منهما، وأعطى الرجلين كتابيهما، وأوهمهما أنه أمر لهما بجائزة تُصرف فورًا من خزينة المكعبر. أجال المتلمّس فكره في الموضوع، و"الفار لعب في عبه" ولم تنطلِ عليه المسألة؛ فظن أن في الأمر مكرًا، وقرر أن يقرأ الكتاب ليبترد صدره وتسكن مراجله.

حدَّث المتلمّس نفسه: ما أتعس الجهل! ليتني ما هربت من الكُتَّاب، أو انتظمت في مدرسة وأكملت تعليمي، ربما أصبحت أستاذًا جامعيًا أو طبيبًا لامعًا، لكن "العايط على الفايت نقصان في العقل"، وما إن لمح المتلمّس صبيًا في الطريق حتى سأله أن يقرأ الصحيفة؛ فقرأها وحذره من أن الملك كتب للمكعبر "إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس؛ فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيًا"؛ فمزق المتلمس الكتاب وألقاه في النهر، وصارت صحيفة المتلمّس مثلًا يُضرب لمن يحمل ما يُتلِفه ويؤذيه.

أعمل المتلمّس عقله، وتصرف بمنطق براغماتي، ثم نصح ابن أخته وقال له: "يا طرفة! كتب لك مثل ما كتب لي؛ فمزِّق صحيفتك"، لكن الدوغمائية قد تمكنت من طرفة وتولى كبره، ورفض رفضًا قاطعًا أن يمزق صحيفته. الدوغمائية Dogmatism داء عضال، وتعني الرأي الأوحد وهي مشتقة من الكلمة اليونانية دوغما Dogma ومعناها التقوقع على النفس والانغلاق على أفكارها، والتعسف في الاستبداد بالرأي مع رفض الآراء الأخرى مهما بدت دلائلها وشواهدها، وقد يكون مبعث الدوغمائية الثقة المفرطة بالنفس.

ومن لوائح الثقة المفرطة عند طرفة بن العبد أنه كان يمشي بين يدي الملك معجبًا بنفسه تائهًا يتخلَّج في مشيته (يتمايل ويتخلَّع)، ولأن المتلمّس براغماتي يرى الأمر بقوابله؛ فقد نصح لابن أخته وقال له يومًا: "إني لأخاف عليك من نظرة الملك إليك، لقد رأيته ينظر إليك نظرة كادت تقتلعك من الأرض"، ومع ذلك لم يأبه طرفة لغرارته ودوغمائيته، ولو أصاخ لخاله لانتفع برأيه، لكنما "إذا وقع القدر عشي البصر".

ركب طرفة دماغه وتمادى في غيِّه وغلوائه، ولم يقبل النصح والإرشاد بأيّ وجه، وافترق الرجلان، وقصد طرفة البحرين ليستقبله المكعبر؛ ليواجه مصيره المحتوم ويُقتل بأمر عمرو بن هند، ولما كان الأمر لا مراجعة فيه، طلب أن يُسقى خمرًا حتى يثمل وأن يُفصد كاحلاه؛ ليُسدل الستار على حياة طرفة بعد أن قتلته الدوغمائية.

قضى طرفة - على الأرجح - قبل 70 عامًا من الهجرة النبوية، وترك لنا درسًا مفيدًا، ولم يفد كثيرون من مصير طرفة؛ فترى مديرًا يتعصب لفكرته ويُلزم مرؤسيه أن ينفذوا رؤيته منفردًا، وترى مدربًا يغض الطرف عن كل رأي سوى ما يعتمل في نفسه، وترى زعماء وقادة يصرون على التعصب والتعسف لما يقررونه؛ فتقع مجازر وحروب أهلية وتتخلف دول عن ركب الحضارة والعمران نتيجة آفة الدوغمائية، والتاريخ شاهدٌ غير متهم.

إن جذور الدوغمائية والشوفينية واحدة، ونتائجهما لا تبشر بخير، ولو بعد حين؛ فاطرح عنك التعصب لرأيك وانفتح على الآخرين، واسمع وحلِّل واستفد من تجاربهم، وثق أن من استبد برأيه هلك.

دلالات