الطيب تيزيني: الباطل الذي آمن بنا

الطيب تيزيني: الباطل الذي آمن بنا

18 مايو 2019
+ الخط -
كنّا مجموعة طلاب دراسات عليا في جامعة حلب، نتحدث بأصوات مرتفعة مع أحد الأساتذة، ونغلق الممر أمام القاعة برؤوس منفوخة خيلاء، وكأننا سنقلب النقد والدراسات الأدبية رأساً على عقب ونأتي بما لم تستطعه الأوائل، عندما ظهر عجوز صغير البنية قصير القامة بشعر أبيض وحقيبة جلدية عتيقة، وبهدوء لا نظير له راح يمر من بيننا محاولاً تفادي الارتطام بنا. كان الوجه مألوفاً جداً، سألت الأستاذ: أليس هذا الطيب تيزيني؟ فقال نعم، لديه محاضرة أسبوعية لطلاب الدراسات. قلت مستغرباً تواضعه: ولكن هذا الطيب فكيف يسير وحيداً هكذا؟ فقال: يا محمد هذا أستاذ جامعي برتبة عالم، وليس أستاذاً جامعياً برتبة مخبر أو عضو فرع حزب!

كانت تلك المرة الوحيدة التي رأيت فيها الطيب خارج الورق، وبعد سنوات علمت أن ذاك العجوز الذي يوهمك بضعفه، امتلك من القوة والصلابة ما يكفي ليشارك في اعتصام الداخلية بآذار 2011، حيث لم تمنعه سنواته السبع والسبعون من المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في السجون السورية، كما لم تمنع السنوات ذاتها عناصر الأمن من ضربه وركله وجرّه في ساحة المرجة إلى سيارة الأمن.

لم يمتلك الطيب شعبية كاسحة بين الناس أو نجومية في وسائل الإعلام، بل على العكس تماماً كان مزعِجاً مقلِقاً، لم يتوقف عن الدعوة إلى تفكيك الدولة الأمنية وأذرعها التي دمرت سورية وأدخلتها في خرابها الكبير، كما لم تتوقف حملات التحريض ضده بوصفه الفيلسوف الكافر صاحب الفكر الماركسي القادم إلينا من بلاد الشيوعية الملحدة، وكما هي الحال مع كل الأنظمة الاستبدادية، كانت تلك الحملات تتم عبر قطعان الخراف المطيعة لرجال الكهنوت بمباركة السلطة الأمنية ورضاها.

هذه الحال التحريضية تلخصها حادثة عام 2000 في جامعة دمشق، حيث كان من المقرر عقد مناظرة فكرية بين الطيب تيزيني ومحمد سعيد رمضان البوطي عن النقل والاجتهاد، وعند وصول الطيب إلى المكان وجد أمامه قرابة 6000 شخص، غصت بهم القاعة التي تتسع لألفي مستمع أصلاً، وأغلق البقية المداخل والممرات ومنعوه من الدخول واعتدوا بالألفاظ النابية والتهم التكفيرية على أساتذة قسم الفلسفة. كان منعه بالنسبة لطلبة العالِم الجليل عملاً ذا صبغة جهادية ربما، وأمام هذا الوضع المنذر بالتفجر اعتذر الرجل عن المناظرة، ويُروى أن البوطي قال حينها: ظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.

أما نحن، فلم نكن أحسن حالاً من عنصر الأمن الذي ضرب الطيب وقال له ربما: بدك حرية ولاك، لقد كنا نسبّح بحمد ذاك "الحق" ونلعن "الباطل" اللعين، ولكن الأيام أثبتت أن ذاك "الباطل" كان مؤمناً طوال عمره بالحرية وحتمية التغيير القادم، ذاك "الباطل" كان إلى جانب شعبه يُضرب ويهان وينبذ، في حين كان "الحق" ينعم بظل السلطة ورعايتها، ناعتاً أبناء الثورة بأقذع الصفات.

وفي محاضرة له بطنجة تعود لعام 2015 بكى هذا "الباطل" سورية التي أضحت "على الأرض"، وعبثاً حاول الجمهور والمنظمون تهدئة المفكر الكبير أو كبح دموعه، وعندما تمالك نفسه أخيراً قال: سامحونا! ومع رحيله بالأمس عن 85 عاماً تغدو عبارة "سامحونا" عبارة محرجة حقاً، فالرجل لم يتوقف يوماً عن رؤية نافذة كبيرة من الأمل في نهاية نفق المأساة السورية، وكان مقتنعاً دائماً أن "سورية عائدة، ستعود حتى لو ذهبنا نحن"، إنه يصر على مواجهة ذواتنا المهزومة المنكسرة، التي استسهلت إعلان الهزيمة والانزواء في المنافي والمغتربات.

كان مقتنعاً أن أبناء سورية الذين انطلقوا منها يوماً لنشر الأبجدية والمعرفة حول العالم؛ سيعودون إليها مجدداً ليعيدوا بناءها.

مُحرِجة هي "سامحونا" وثقيلة وهي تقترن بدموع العالِم، لأنها لا تعني أبداً: "أطلب منكم الصفح" بل تعني: إياكم أن تخذلوني.. إياكم أن تخذلوا وطنكم وسوريتكم..

دلالات