جريمة جوى استانبولي.. "انتصار" انتهى بالفشل

جريمة جوى استانبولي.. "انتصار" انتهى بالفشل

22 اغسطس 2022
+ الخط -

لا يمكن اعتبار جريمة مقتل الطفلة السورية جوى استانبولي حدثاً استثنائياً وغير مسبوق، فـ"اختطاف طفل – الاعتداء عليه جنسياً – قتله" هي واحدة من الأنماط الجرمية المتكررة في العالم كله، ولسورية كما غيرها نصيب من هذه الجرائم. ولست هنا لمناقشة الجريمة ودوافع المجرم وحالته العقلية. ما يعنيني في هذه الأسطر هو كيف تعامل نظام الأسد مع هذه الجريمة.

قبل جوى قُتل عشرات، وربما مئات، الأطفال في جرائم مشابهة، ولكن عدداً كبيراً من هذه الجرائم وغيرها بقي طي الكتمان، لماذا؟ لأنها ببساطة كانت تهدد وتشكّك بصدقية رواية "دولة الأمن والأمان" التي جهد نظام الأسد في نشرها وتعميمها وترسيخها في عقول المواطنين، لتصبح المكسب الوحيد الذي يستحق الحفاظ عليه، ويدفع للبقاء في البلد والصبر، رغم الفساد والفقر والقمع السياسي وسوء الحال، ولن يصرف الباحث كبير جهد في العثور على عبارات متحسّرة على "الزمن الجميل" من مثل: "كنا عايشين في أمن وأمان".. "سورية كانت الدولة الأكثر أمناً في العالم".. "كنا نخرج من البيت في وقت متأخر جداً ليلاً دون أن نشعر بالخوف".

متطلبات صورة "الأمن والأمان" هذه، اقتضت التعتيم على الجرائم بكل أشكالها، ولسنوات طويلة، بل اقتضت أيضاً التعتيم على إصابات الأمراض، وآخرها ما حدث في بداية انتشار فيروس كورونا، حيث بقي النظام ينفي وجود أية إصابات بالفيروس، في الوقت الذي كانت المستشفيات ترزح فيه تحت وطأة ضغط الإصابات.

الجرائم التي كانت تفلت من قيد التعتيم؛ كانت تصل إلينا عبر سبيلين، الأول هو البرنامج التلفزيوني الشهير "الشرطة في خدمة الشعب"، حيث يستضيف المذيع الراحل علاء الدين الأيوبي المجرمين ليتحدثوا عن جرائمهم مشفوعة دائماً بعبارات الندم وتوجيه النصح للآخرين بضرورة الابتعاد عن طريق الجريمة، لأن "العدالة بالمرصاد"، مع استضافة ضباط الشرطة ليتحدثوا عن جهودهم في ترسيخ الأمن والأمان، وعبقريتهم في كشف الجرائم. أما الثاني فكان عن طريق الصحف العربية، واللبنانية منها خاصة، والتي كانت تكتب عن الشأن الداخلي السوري الذي ما كان يجد لنفسه حيزاً في إعلام الأسد المتفرغ للمقاومة والصمود والتصدي للمؤامرات الإمبريالية المتتالية. وكانت مقالات تلك الصحف تُطبع على أوراق وتباع في الكراجات مع عبارات من مثل: "شاهد أخطر جريمة.."، "كيف قتل فلان أمه.."، "قتله وقطّعه ودفنه في.."، إلى غير ذلك من عبارات ترويجية صفراء.

متطلبات صورة "الأمن والأمان"، اقتضت التعتيم على الجرائم بكل أشكالها، ولسنوات طويلة.

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن القول إن النظام فقد السيطرة بعض الوقت، ولكنه سرعان ما استجمع شتاته وقرر ضبط مساحات التعبير الجديدة، أمام أولئك الذين بقَوا تحت سلطته على الأقل، فسنّ حزمة من القوانين الرادعة لما أسماه "الجرائم الإلكترونية"، وأطلق جيشاً إلكترونياً يدير صفحات وحسابات تعمل على توجيه الرأي العام، يُحدد لها بدقة القضايا التي يجب أن يجري تناولها، وتلك التي لا تليق بدولة الأمن والأمان.

ولكن سنوات الثورة والحرب والجرائم الهمجية التي ارتكبها النظام بحق السوريين فتّتت صورة "الأمن والأمان"، لتتصدر سورية إحصاءات "أخطر بلدان العالم". وأمام ذلك كان لا بد من تغيير الاستراتيجية، فسياسة التعتيم ما عادت نافعة!

وهكذا عكست الآلية، فبدلاً من التعتيم على الجرائم بات النظام يحرص على نشر بعضها، وتحويلها عبر جيشه الإلكتروني إلى "ترند" وقضية رأي عام، وسرعان ما تتصدى أجهزته الأمنية لتوقع بالمجرمين، مؤكدة مرة أخرى أن "العدالة بالمرصاد" وأن سورية هي "بلد الأمن والأمان".

وإذا ما استثنينا جرائم نظام الأسد والمحسوبين عليه؛ فإن المجتمع السوري لا يعرف جرائم معقدة أو منظّمة، هي في جلّها جرائم بدوافع تقليدية تحدث دون كبير تخطيط؛ كسرقة بين أقارب أو شركاء، أو قتل بين معارف، أو عنف أسري، وما شابه.

وجريمة مثل جريمة قتل الطفلة جوى لا تخرج عن هذا الإطار، فالطفلة اختفت في الحي ثم ظهرت جثتها في الحي نفسه بعد الاعتداء عليها.

ولكن نظام الأسد حرص على تهويل الأمر، وكل جريمة بشعة دون شك، فما بالك حين يكون الضحية طفلاً، وصفحاته لم تكتفِ خلال عملية صناعة "الترند" بالضخ المكثف عن الجريمة، بل وجدت الوقت لتهاجم صفحات المعارضة وحسابات ناشطيها، متهمة إياهم بالشماتة وعدم الاكتراث، في محاولة لتأكيد خيانتهم!

بدلاً من التعتيم على الجرائم بات النظام يحرص على نشر بعضها، وتحويلها عبر جيشه الإلكتروني إلى "ترند" وقضية رأي عام

وكما هي العادة، تصدّت "مؤسسات" النظام للجريمة، فخرج الطب الشرعي ليقول إن خبراءه اكتشفوا أن الطفلة قُتلت بسبب ضربة على رأسها، وأكدت الأجهزة الأمنية أنها لا توفر جهداً لحل الجريمة، وفي أجواء الترقّب والانتظار الجماعي، أُعلن أخيراً من قبل وزارة الداخلية، أنه وبعد "البحث والتحري وتتبع الأدلة والقرائن" جرى الوصول إلى المجرم، الذي كان يعيش في الحي نفسه، وربما لا يبعد عن بيت الضحية إلا أمتاراً قليلة.

وفي دولة أمنية تعدّ فيها أجهزة الأمن أنفاس مواطنيها، سُوِّق القبض على المجرم باعتباره انتصاراً كبيراً للعدالة، ولم تتوانَ إحدى الصفحات عن نشر صورة الجاني مذيلة بعبارة سرقتها من بشار الأسد، قائلة: "صورة للشخص الذي أجرم بحق كل الشعب السوري". وتحرّك وزير الداخلية شخصياً لتقديم العزاء للأسرة المنكوبة بتعليمات مباشرة من بشار الأسد، الساهر على أمن المواطنين، ولم يفت الإعلام الرسمي تأكيد أن والد الطفلة الضحية شكر "السيد الرئيس بشار الأسد على وقفته مع العائلة المنكوبة بفقدان طفلتها، وهو تأكيد على وقوف السيد الرئيس مع أبناء شعبه في كل المواقف"، بحسب ما أوردت وكالة أنباء النظام. بالطريقة نفسها التي فعلها النظام سابقاً مع الطفل فواز قطيفان الذي حُرّر قبل أشهر من خاطفيه بعد دفع الفدية المطلوبة، ودون أن يكون للأجهزة الأمنية أي دور في إطلاق سراحه. وبالطريقة نفسها التي سيتبعها النظام لاحقاً في أي جريمة مشابهة!

إلى هنا كانت الأمور تجري على ما يرام بالنسبة للنظام، و"الانتصار" يتحقق بشكل جيد جداً، وصورة "الأمن والأمان" تتعزز، ولكن ما حدث بعد ذلك أفسد كل شيء!

ففي خضم سعار النظام لركوب الجريمة إلى مداها الأقصى، وُضِع المجرم على عجل أمام كاميرا التلفزيون الرسمي، وسُمح له بالحديث عن تفاصيل جريمته بمطلق الحرية "المستفزة". وهنا تحدث المجرم كيف أنه خنق الضحية بعد الاعتداء عليها جنسياً. معلومات كانت كفيلة بتخريب كل شيء. فـ"المؤسسات" أكدت في تقرير الطبيب الشرعي أن الضحية قُتلت نتيجة ضربة على الرأس، ولم تذكر شيئاً عن خنق أو اعتداء جنسي!

تناقض كان كفيلاً بإثارة عاصفة من الغضب من المواطنين المشككين أصلاً بصدقية النظام، وهكذا سارع النظام بدل قطف ثمار "انتصاره" إلى "لملمة" الموضوع، حيث جرت الإطاحة برئيس مركز الطبابة الشرعية "على خلفية الأخطاء في تقرير الطبابة الشرعية"، التي اكتشف المواطنون أنها لم تشرّح الجثة ولم تفحصها أصلاً!

ربما ظنت الطبابة الشرعية أن الأمر مماثل لآلاف الجثث التي سُحقت تحت التعذيب في سجون النظام وطلب منها أن تصدر وثيقة شكلية تؤكد أن أصحابها ماتوا بسبب "احتشاء العضلة القلبية".

ولم يتوقف الأمر هنا، بل ضاعف النظام من معاناة العائلة، وأُخرجت جثة الطفلة من قبرها، ليُصاغ تقرير جديد يتوافق مع اعترافات المجرم التي أوقعت "دولة المؤسسات" في ورطة غير محسوبة، أذهبت محاولات إعادة ترسيخ "دولة الأمن والأمان" أدراج الرياح، تاركة عند المواطنين صورة واحدة فقط: الدولة الفاشلة!