في التغيير... لماذا التخلية قبل التحلية؟!

في التغيير... لماذا التخلية قبل التحلية؟!

21 مارس 2019
+ الخط -
لقد وصلنا إلى المحطة المزمع لقاؤنا فيها، ولكني طوال الطريق ألمح فتاة جميلة تقف في ناحية من نواحي الحافلة، ترتدي نظارة تعبث بشعرها بين الفينة والأخرى، كلما اقتربتُ من محطة الوصول أقول لنفسي: كيف سأنزل حينما أصل إلى المحطة؟

كيف أترك هذا الجمال وأمضي عنها، أعطيها ظهري وكأني ما أبصرت شيئاً، ولا زاحمتُ أحداً لأجل الحصول على نظرة، أرمّمُ بها روحي المتعبة بالألم وقلبي المنهك، حين تصل إلى المحطة وتودّ النزول، ستتهم نفسك بالجبن أو الضعف أو قلة ثقة، لأنك ستمضي عنها، وتذهب إلى الهدف المحدد من الرحلة، هذه الجميلة، أم الهدف المنشود.

يبدو الإنسان ضعيفاً وضعيفاً جداً أمام فكرة التخلي والترك، لهذا كلما طرأ على الإنسان حدث يدعوه للتخلي عن مكان ما أو وظيفة ما أو رفيق ما، أو فكرة، أو حبيبة، أو وطن، أو منزل، يقفُ في أنحاء هذا الشيء متسائلاً: كيف أتخلى بكل هذه السهولة، أو أترك ما ألفته في هذه الحياة، أترى هي محطةٌ باستطاعتنا أن نتخلى عنها، أم أنها حفرت في ثنايا قلوبنا شيئاً عظيماً، وخلدت في روحنا ذكرياتٍ كثيرة يصعب محوها.

الأماكن والذكريات العادات والتقاليد الأفكار والموروثات، نحن دائماً على مفترق طرق بين أن نتخلى عن أشياء ألفناها لأجل أن نتحلى بأشياء أفضل منها.


يخرج من منزله ويلقي عليه النظرات الأخيرة، تذرف عيناه الدموع، فهو وإن بدى مجرد مجموعة من الحجارة مرتبة بشكل منتظم، لكنه في نفس الوقت شهد ذكريات وأحداثاً جميلة، ضحكات وسمراً، وجمعةً للأهل والأحباب ولقاء الأصدقاء، كل الذكريات الرائعة فيه تلغى على حساب جانبٍ واحد، أن البيت لم تعدْ حجراته كافية، وأن العائلة التي بدأت بشخصين، انتهت بثمانية أشخاص، يفكرون بجدية أن يؤسسوا أسراً جديدة، ستبدو فكرة التخلي للوهلة مؤلمة ومرعبة، وفي نظرة بسيطة على النتائج التي ستعقبها، أصبحت لها نظرة إيجابية لتتحلى الأسرة بمنزل واسعٍ يتسع لكل أفراد العائلة.

ليس هذا أفضل حالاً من صاحبي الذي كنتُ أحدثه عن ضرورة السعي لأعمال أخرى، فالعمل في مجالنا الحالي غير مجدٍ من الناحية المادّية، رغم أنه نافعٌ ومفيد من الناحية المعنوية والتطويرية. لم يستوعبْ الفكرة إطلاقاً، بل رآها صعبة جداً، وكأن ما خطر في ذهنه: كيف لي أن أتخلى بهذه السهولة، أترك العمل الذي انطلقتُ مع نشأته الأولى؟ نسي أن هذا العمل امتصّ كل طاقته وأخذ معظم وقته، ولَم يعطهِ إلا الفُتات من المال، في الحياة نكون خاسرين، حينما نكون متشبثين بالأشياء لدرجة كبيرة، أزمةٌ نفسية يعيشها معظم الناس في مجالات الحياة كافّة، لأننا تربينا على فكرة التشبث ولَم نتعلم أن التخلي هو خطوةٌ مهمة للتحلي بأشياء ممتعة في الحياة.

حتى على مستوى الأفكار نجد صعوبة في التصحيح، فنحن نمتلك مقومات أن ما وجدنا عليه آباءنا كان صائباً على الإطلاق، لقد فوجئ أحد التربويين عندما قلت له: إن ما نعامل به طلابنا اليوم خطأ، ولا يتناسب مع زمانهم ومقتضيات عصرهم، فقد انتهى منذ زمن دور الأستاذ الأسطورة الذي يدخل للقاعة الدراسية ليجد الطلبة جالسين كالملائكة لا يهمسون بكلمة ولا يلتفتون، رغم أنه خطأ في ذاك الوقت، لكنه كان سائداً ويوجد مجتمعٌ يتقبله ويطبقه، أما اليوم فقد تغير كل شيء.

ومن لم يعترف بأن كل شيء تغير، فسيجرفه التغيير لا محالة، وسيبدو راكضاً خلف الجيل الجديد ولن يلحق به، هذه فكرة بشرية تصالح عليها البشر واتفقوا عليها. أما أن تجادل أو تناقش في فكرة تتبناها المنظومة الدينية، فأنت داخلٌ في حقل للألغام، تتوجه إليك فوهات الانتقاد والتسقيط، ولا بأس أن تسمع بتصنيفات يطلقونها عليك، ستبدو أمامهم أضعف المسلمين إسلاماً، وأقل المؤمنين إيماناً، ولو توقف الأمر إلى هذا الحد فأنت على خير كثير؛ أفكار كثيرة دخلت المنظومة الدينية، هي ليست من الدين في شيء سوى أنها لبست ثوب القدسية، وحُشيت في كتب الفقه، ووقف خلفها جيشٌ من الناس يدافع عنها، بل ربما يقتلُ من أجلها، فكرةٌ بشرية صلحت في زمان ومكان، ولَم تعد صالحة اليوم إطلاقاً، وأحاديث قيلت في مناسبات خاصة جداً لم يعد لها مجال للتطبيق اليوم. المعركة العظمى هي أن تتخلى عن فكرة أو اجتهاد، وتحاول تغييره وتحسينه، وعلى ما يبدو أن بعض الرؤى تسندها مؤسسات تدفع لأجلها الأموال، وإن بدت لأصحابها خطأً، فستبقى تروج على أنها صحيحة، فهي بابٌ من أبواب الرزق، وقد تكون عمل من لا عمل له، تبقى الإرادة الحرة، هي التي تتصف بصفة التخلي إذا ما تبيّن خطأه.

وفي نظرةٍ سريعة حتى لتاريخ الأنبياء والمصلحين، كانت فكرة التخلي واضحة في أفكارهم، بل وفي تطبيقاتهم العملية، الأرض التي ينتمي إليها الإنسان يصعب عليه فراقها بسهولة، لكنّ هذه الأرض التي أصبحت مصادرة للطاقات والحريات وتكبتُ كل رأي يخالفها ويجابه منظومتها، يكون هجرانها والتخلي عنها سهلاً جداً، هذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتخلى عن مكة التي حاصرت دعوته ولَم تفسحْ له المجال في تبليغها، ليذهب إلى بقعةٍ أخرى من العالم، ليجد المقبولية له ولأفكاره.

لعلي أطلتُ على القارئ بعض الشيء، لتتضح الصورة بشكل واسع، ولنقف على فكرة مهمة ألا وهي: "التخلي قبل التحلي"، قد تجد الصعوبة في التخلي عن حبيبة، أو فكرة، أو وظيفة، أو بلد، أو عادة سيئة، لتبقى رهيناً وحبيساً داخلها، لتفقد التحلي في أشياء أخرى أكثر جمالية في الحياة، ستغدو مرهوناً وعبداً. إن لم تكن فكرة التخلي عندك قناعة وسلوكاً، والعبيدُ هم من يصعب عليهم التخلي، وأما الأحرار فدائماً يتصفون بصفة التخلي قبل التحلي.

دلالات