الحكاية وما فيها... مسألة اهتمام

الحكاية وما فيها... مسألة اهتمام

13 مارس 2019
+ الخط -
صغيراً كان صديقي يوزع بعض النِكات من باب المداعبة عند رسوبنا في الامتحان أو الحصول على درجة لا تسر عدواً ولا حبيباً، فيقول: "غداً نكبر ونضحك على هذه الأيام"، لكن في حقيقة الحال أخشى أن تتحول كل حياتي لهذا الموقف، فأكبر وأضحك على حياتي بأكملها، فأحاول من حينٍ إلى آخر أن أجعل وجهتي من المهم إلى الأهم، فتحاوطنا الحياة بدائرة الاهتمامات التي تملأ فراغنا الدنيوي والروحي ولا تقودنا إليه.

الاهتمامات تعبر عن خلاصة توجهك في الحياة والتجارب التي مرت عليك فتجعلك كتاباً يقرأه الآخرون ومنها يعبرون عن إعجابهم أو انخداعهم، فلا يوجد إنسان عظيم يفتش عن الأشياء التافهة أو آخر وضيع يهتم بالأمور العظيمة، لذلك ارمِ نظرتك على ما تهتم به فتعرف "من أنت"..

"تكلم حتى أراك".. قالها سقراط، عندما رأى كل طلابه يجادلونه إلا واحداً منهم يغيب عن النقاش، فرماه بهذه العبارة، وهو لا يعلم أنها ستصبح بداية اللعنة على كل انطوائي صامت لا يميل له الناس لكن بداخله ما لا بد من أن يعبر عنه لكي يكشف عن هويته، فهويتك تابعة من توابع اهتماماتك، فلولا الكلام لستر الصمت الكثيرين من الذين يحملون جعبة من الاهتمامات الزائفة، فكل العجب يكمن في دراويش الشهرة والمهووسين بلفت الأنظار.


عاقبني القدر ذات مره في بداية حياتي الجامعية، وبعد ما خلصنا يومنا وانتهت المحاضرات حوالي الثانية بعد الظهر قعدنا على مقهى المنشاوي القريب من الجامعة لنتبادل آراءنا - التي لا تغير من الواقع شيئا - ويتعرف كل منا على الآخر، وإذا بواحد من القاعدين ينادي بصوته الذي يشق الحوائط لكي يقع نداءه على مسامع كل الحاضرين: "يا عباااس، حساب المشاريب كلها عندي".. وبعدها يواصل حديثه مع القهوجي، ويحكي لنا عن خاله المهندس الذي يعمل في شركة...!

- "ااه نسيت أصل هو لف ودار كتير".. يقولها متعجرفاً، ثم يتبع كلامه عن عمه الطبيب والآخر نائب أكبر شركة أقماش في الشرق الأوسط.. إلخ، حتى تشعر أنه وضعك في متاهة ألقاب أصابتك بالدوار.. ابتلع صاحبنا كل القعدة ولم يترك أياً منا يهمس بحرفٍ واحد!

الواضح جداً من سرده أنه يختلق الأحاديث، وإن صدق فهو يفخر بما فعله غيره كعاهرة تتباهى بصورتها في المسجد، انتهى الأمر سريعا لننقل دفة الحوار إلى السكن الجامعي ورفيق الغرفة وبدأ الكل يعرف من يجاوره بالسكنى، ومرارة الدنيا تضرب حلقي بسياط الواقع عندما عرفت أنه هو..

أكلني الصمت للأسبوع الأول وتحملته وهو يتكلم باستمرار عن تناسق عضلاته وانبهار كل من في "الجيم" وهو يتمرن، ومروة الفتاة التي تهيم بنظرته في المحاضرة ووقوفه يختال بنفسه ساعات أمام المرآة، وغيرها من الاهتمامات الزائفة، حتى قررت أن أصدمه بالحقيقة، فعبرت له عن مدى تفاهة أفعاله وأن دنياه ليست هي الدنيا، ومن يومها لا أتذكر أني رأيته مرة أخرى..

فأدركت أن الحقيقة تحررنا والاصطدام بها يكسر قيود خداع النفس ويطردنا من الوهم الذي نعيش فيه، لكن للاهتمامات تبعات، فهي تحدد أهدافنا، فالزائف منها يعني بداية الطريق لنفقد هدفنا أو أننا بالفعل قد فقدناها فقادنا الإحباط إلى التفاهة.

فمن المفترض أن تكون اهتماماتك ترتسم بلون من الجدية والفائدة، التي تملأ بها فراغك حتى وإن كان هدفك في نظر الآخرين ضئيلا، لكنه يعظم باهتماماتك، قالها المتنبي "على قدر أهل العزم تأتي العزائم".

لا بد أن يكون لك حلم تسعى إليه وأهدافك واضحة منذ اللحظة الأولى، لأننا إن فقدنا زمام أهدافنا وضعنا قيدنا بأيدي الآخرين ليتحكموا بنا!

ومهما كان حلمك وإن احتقره الجميع ونظروا إليك بأنك مجنون أو نعتوك بالسفه فلا تنظر إليهم وارحل ولا تسمع لمن يدعوك بالنمطية، وكونك تقليديا فأنت تقليدي المظهر، لكن بداخلك ما يفجر العالم من الإبداع..!

دلالات

A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.