لا أراك الله إياه...!

لا أراك الله إياه...!

15 يونيو 2020
+ الخط -
في بداية العشرينيات، وكما عرفناها بأنها حقبة التنوير الذي من المفترض أنه قد قادنا إلى التغيير، قام الكاتب الكبير الأستاذ أحمد أمين بإرسال نسخة من كتاب له -ضحى الإسلام- إلى أحد المستشرقين في أوروبا، وانتظر رد المستشرق الأوروبي بفارغ الصبر، وتوالت الأيام في الرحيل حتى جاءت برقية يقول فيها رأيه في الكتاب ويشكره على الهدية، وكان الخطاب باللغة العربية واختتمه بقوله:
"أدامكم الله لننتفع من خرارة علمكم". لكنه قد تجرد من محاسن اللغة فهو لا يعرف من معنى كلمة "خرارة"، إلا أنها من الفعل "خر" ولا شيء غير ذلك.

فنجد أنفسنا مع الكلمة وهي تضعنا أمام صدمة لفظها والشيء الآخر هو ما تحمله الكلمة من معنى، لذا فالكلمة مهما كانت لها من ظاهر البساطة فهي تحمل في جوفها الكثير من المعاني، وهذا مثال بسيط على تعدد وكثرة أسماء (الأسد - السيف - الكلب - الغزال - ..إلخ). فكل لفظ له معناه الذي لا يحيد عنه ودلالته التي يشير إليها.


صدمة اللفظ وقوة المعنى تكونان مؤثرتين في أبسط الأمور تدرجا حتى نصل إلى الخطاب الجمعي، الذي بطبيعة الحال هو السبب الرئيسي في تكوين العقل الجمعي -انطباعات الأفراد وأفكارهم عن الأشياء-، فعندما أراد فرعون مهاجمة موسى قال: (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض فساد)، فاستخدم التعبير المجازي الصحيح حتى وإن كان مخالفًا للواقع لكي يغير به رأي العامة من الناس، فقال تعبير "يبدل دينكم - الفساد"، وكلاهما يشعران الإنسان باقترابه من الخطر فيميل بغريزته للمتحدث من وقع الكلمة وأثرها عليه.

في العصور القديمة لم يكن لفظ "الموت" موجودًا عند أهل أوروبا أو أهل شرق آسيا، وهذا يفسر خوفهم المفرط من الموت لأنه يرتبط لديهم بالفناء، لكن إذا ارتبط لدى العرب بمعانٍ أخرى مثل "الاستشهاد" أو وجود "الجنة والنار"، فهنا يقدمون على الموت بشجاعة لأنه أصبح للفظ معنى، وبالتالي بات أكثر قوة في التأثير.

في الخطاب الجمعي هنالك ألفاظ خفيفة تداعب النفوس، ولا تقف النفس منها وقفة المانع بل وقفة المعتاد، وتوجد بعض الألفاظ الفظة التي تنفر منها النفس، فمثلًا قول أحدهم "هذا ملحد"، وقع الكلمة على مسامعنا ليس كقول "هذا كافر"، وعندما نقول "إنه مثلي"، ليس كقولنا "إنه شاذ أو إنه مخنث".

يقول أفلاطون: "لا يمكن أن يفكر الإنسان من دون لغة"، لذا فالعالم بمفاتيح اللغة والمفتش بدهاليز الكلمات وبواطنها يصل إلى أعلى مراحل الإدراك والفهم، لكن هل يقوم أحدهم باللعب بألفاظ ومصطلحات الخطاب الجمعي لكي يقوم برسم عقول العامة كما يريد؟ هل يوجد من يريد تبديل قاموس اللغة لتغيير المفاهيم؟.. لربما!.

لكن عن نفسي وبطيب خاطر أتمنى ألا يأتي هذا الزمن "لا أراك الله إياه".
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.