في ذكرى عميد الرواية العربية (2-1)

في ذكرى عميد الرواية العربية (2-1)

11 ديسمبر 2019
+ الخط -

يوافق 11 ديسمبر/ كانون الأول ذكرى ميلاد الأديب الفذ نجيب محفوظ، وقد أمضى في مشواره إلى نوبل 77 عاماً، أنجز خلالها 49 عملًا أدبيًا ما بين الرواية والقصة القصيرة والمسرحية. اقترح توفيق الحكيم أن يخصص عيد للرواية، يوافق يوم ميلاد نجيب محفوظ، لكن هذا الاقتراح قيد الأحلام حتى اللحظة.

وثمة محطاتٌ مهمة في حياة نجيب محفوظ، نعرض لها على جناح السرعة، قبل أن نغوص في رحاب الثلاثية بين النص والصورة، ونقصد بالصورة هنا السينما على وجه التحديد.

في حي الحسين، ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر 1911، وكان الوحيد من بين إخوته الذي ولد في منزل بميدان "بيت القاضي" المطل على "درب قرمز"، بينما ولدوا - له شقيقان وأربع أخوات كلهم يكبرونه - في بيت بـ "درب القزازين" في الجمالية. في عام 1920 تركت العائلات الكبيرة، مثل المهيلمي والسيسي والخربوطلي، درب قرمز؛ مما أفقد المكان بهجته فانتقلت عائلة محفوظ إلى العباسية الغربية، وعاشت في شارع رضوان شكري. لم ينقطع محفوظ عن زيارة حي الحسين، وكان يجلس ساعات طويلة على قهوة الفيشاوي مع أصدقائه.


تعود أصول والده عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا (1870 – 1937) إلى عائلة الباشا في رشيد، أما الأم فتنتمي إلى عائلة عفيفي الإقطاعية في الفيوم، وكان والده يرتدي الملابس الإفرنجية والزي الأزهري، على عكس ما كان شائعًا وقتها؛ فكان الرجل يتقيد بأحدهما دون الآخر. كان الوالد يرجو أن يصبح ولده وكيل نيابة أو طبيبًا، لكنه خيّب أمله وسلك طريق الأدب، وقد توفي الوالد عام 1937 حتى قبل أن يصدر نجيب روايته الأولى عبث الأقدار.

والدته، فاطمة إبراهيم مصطفى، لم تعرف القراءة والكتابة، وهي ربيبة بيت أزهري ولوالدها كتاب في النحو مطبوع، كانت شديدة التعلق بالمسجد الحسيني، ولم تنقطع عن زيارته إلى سن التسعين من عمرها، كانت تزور المتحف المصري ودير مار جرجس، ولا ترى في زياراتها إلى هذه الأماكن أي تناقض؛ فكلهم "سلسلة واحدة" على حد تعبيرها البسيط.

دخلت والدته السينما مرة واحدة لمشاهدة فيلم "ظهور الإسلام"، وقد قيل لها إن من شاهد هذا الفيلم بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، ولبساطتها صدقت ما سمعت ودخلت السينما. عاشت إلى سن المائة، وتوفيت عام 1968 وهي نفس السنة التي حصل نجيب فيها على جائزة الدولة التقديرية.

بدأ حياته قارئًا للكتب والروايات البوليسية مثل سنكلير، جونسون، ملتون توب، وكان يترجمها "نجيب حافظ"، ثم قرأ المنفلوطي والروايات التاريخية التي ترجمتها الأهرام، وكان يعيد كتابة بعض القصص البوليسية التي قرأها ويكتب عليها اسمه، ولذلك ألف "نظرات"، و"عبرات" على نهج المنفلوطي. وحين قرأ "الأيام"، كتب على غرارها ما سماه "الأعوام"، روى فيها قصة حياته على طريقة طه حسين، وفي حوارٍ له مع الناقد فؤاد دوارة، ذكر محفوظ أنه يحتفظ بالشعر والأعوام "وإن احتاجا إلى نبشٍ كبير".

كتب في الصحف عام 1928 وكان أول كتاب نُشر له مترجمًا عن "مصر القديمة"، وبعد تخرجه من الجامعة عام 1934 واصل الكتابة، وظهرت أول مجموعة قصصية له عام 1938 بعنوان "همس الجنون"، وأول كتابات نجيب محفوظ الروائية "عبث الأقدار" وظهرت عام 1939، ومن بعدها رادوبيس ثم كفاح طيبة عام 1944، وتوالت أعماله الإبداعية تترى. سبق محفوظ لكتابة الرواية العربية رجلان؛ الدكتور محمد حسنين هيكل بروايته "زينب" وكتبها سنة 1914، وتوفيق الحكيم برواية "عودة الروح" وكتبها عام 1927.

كتب حوالي 50 أقصوصة لم يرضَ عنها، ونشر ثمانين في الصحف، اختار منها 28 لمجموعته همس الجنون، وأول قصة كتبها بعنوان "ثمن الرغيف". بدأ كتابة الرواية قبل تخرجه، وألّف ثلاث روايات لم يرتضيها سلامة موسى، لكنه شجعه على الاستمرار في الكتابة، ثم كتب الرواية الرابعة "عبث الأقدار"، نشرها موسى في عدد خاص من "المجلة الجديدة". سلامة موسى الشخص الوحيد الذي قرأ مخطوطات روايات محفوظ قبل نشرها وقتذاك.

بعدها نشر معظم قصصه في مجلتي "الرواية" و"مجلتي"، إلى أن تفاقمت أزمة الورق عام 1939 وأغلقت مجلة الرواية؛ فانصرف بكل جهده لكتابة الرواية. لا تخلو همس الجنون من تعثرات البداية، ولا يخرج بعضها عن الحكايات البدائية بنزعة إصلاحية، لكن موهبته واضحة فيها، كما بدت موهبة توفيق الحكيم منذ عودة الروح وأهل الكهف سنة 1933.


تخرج محفوظ في الجامعة سنة 1934 وأحيل إلى المعاش عام 1971، وقد عمل بوزارة الأوقاف سكرتيرًا برلمانيًا لأستاذه الشيخ مصطفى عبد الزارق وزير الأوقاف. ظل بالوظيفة حتى 1955 وانتقل إلى وزارة الإرشاد القومي (التي أصبحت وزارتين لاحقا؛ وزارة الثقافة ووزارة الإعلام)، ثم عمل في وزارة الثقافة إلى أن أحيل إلى المعاش سنة 1971.

في فترتي الثلاثينيات والأربعينيات، أهمل النقاد نجيب محفوظ بالكلية، ولم يجد لأعماله صدى في الأوساط الأدبية، وكانت الريادة للشعر وكانت الرواية والقصة تحبوان، ومما يدل على ذلك إعلان العقاد - وهو على رأس الحياة الأدبية يومها - أن القصة فن ثانوي قليل الأهمية، وأن بيتًا واحدًا من الشعر الجيد يفوق مئات الصفحات من القصة الجيدة.

أثارت آراء العقاد في المفاضلة بين الشعر والقصة، والتي أوردها في كتابه "في بيتي" الصادر عام 1954، عاصفة من النقد في الأوساط الأدبية، وكان العقاد قد استدلّ على موقفه ببيتٍ للشريف الرضي يقول فيه: (وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلبُ)، وكان ممن تصدى للرد على العقاد الأديب الشاب يومها ثروت أباظة، لكن الجدير بالذكر أن نجيب محفوظ نفسه بدأ الحياة الأدبية بقرض الشعر، وكتب شعرًا رديئًا لم ينشره واستحيا أن يراه أحد.

مع ثورة يوليو/ تموز 1952 ظهر الاهتمام المحدود بكتابات نجيب محفوظ، يستنثى من ذلك سيد قطب (1906 – 1966) الذي كتب مقالًا نقديًا لرواية "كفاح طيبة"، وكان ذلك قبل حصول محفوظ على نوبل بأربعة وأربعين عاما، وقد نشر قطب المقال في الثاني من أكتوبر 1944 بالعدد رقم 578 من مجلة الرسالة، ثم أردف بمقال آخر عن رواية "خان الخليلي" الصادرة سنة 1946 ثم بمقال ثالث عن رواية "القاهرة الجديدة". كان سيد قطب قد اكتشف الناقد أنور المعداوي (1920– 1965)، وتأثر المعداوي بكتابات قطب في محفوظ وقرأ له، وكتب دراسة نقدية حول روايته الثامنة "بداية ونهاية" الصادرة عام 1950، وكانت دراسة مبشرة بميلاد كاتب روائي عملاق.

باستثناء قطب والمعداوي لم يجد نجيب محفوظ ناقدًا عربيًا يكتشف موهبته الفذة، ومن بعدهما الدكتور شفيع. إهمال نقدي تلاه اهتمام محدود من ناقدين كبيرين، ومحفوظ يكتب دون يأس أو تراجع، وقد كتب قبل "بداية ونهاية" سبعة أعمال روائية ومجموعة قصصية؛ فالروايات هي عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة، القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق، السراب، بداية ونهاية، أما المجموعة القصصية فهي همس الجنون. وبالرغم من إهمال النقاد له لم يستسلم.

مطلع خمسينيات القرن المنقضي، تعرض محفوظ لحملة نقدية شرسة، أبرزها كان لقلم الدكتور عبد العظيم أنيس في كتاب "في الثقافة المصرية"، ويعتبر هجوم أنيس على محفوظ أشد وأقسى هجوم تعرض له محفوظ في حياته، ولا يضارعه إلا هجوم يوسف إدريس على محفوظ عقب إعلان نتيجة جائزة نوبل في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1988.

وفي 1956 ظهرت رواية "بين القصرين" وهي الجزء الأول من الثلاثية، ومعها تغير موقف عبد العظيم أنيس من محفوظ، وكتب يمتدح الطريقة الفنية التي انتهجها محفوظ في الثلاثية، وفي العام التالي ظهر الجزآن الثاني والثالث؛ "قصر الشوق" و"السكرية"، وكانت الثلاثية أعظم عمل روائي عرفه الوطن العربي حتى منتصف القرن العشرين، وبدأت مرحلة جديدة من اعتراف النقاد الكامل بأدب نجيب محفوظ.

نجيب محفوظ كاتبًا للسيناريو

خلال الأربعينيات، وتحديدًا سنة 1947، تعرف نجيب محفوظ إلى المخرج السينمائي صلاح أبو سيف، وذلك عن طريق عبد الحليم نويرة الصديق المشترك وجار نجيب، وأخبر أبو سيف محفوظ أنه قرأ له "رادوبيس"، وأن من كتبها بمقدوره أن يكتب السيناريو. أقنعه أبو سيف بكتابة السيناريو، وكان مما شجع نجيب أن العرض جاءه من مخرج مقل في أعماله؛ فلا يخرج إلا عملًا واحدًا سنويًا، فضلًا عن أنه سيكتب السيناريو في الصيف، وهو وقت تفرغ محفوظ، إذ يكتب شتاءً فقط، بينما يتوقف عن القراءة والكتابة صيفًا؛ لحساسية الربيع التي تصيب عينيه.

رفض محفوظ كتابة السيناريو إلا لصلاح أبو سيف، وذلك حتى لا يأخذه السيناريو من فنه الأول والأهم؛ الرواية. من خلال عمله في كتابة السيناريو كانت سعة أفق نجيب وتسامحه مع التعديل والتغيير في أعماله الأدبية لخدمة الشاشة، في حين شعر آخرون بالضيق من تغيير أعمالهم، لكن محفوظ لم يبدِ أي امتعاض من هذا التغيير، وطالب القراء أن يحاسبوه على النص وألا يؤاخذوه بما يقدمه المخرجون على شاشة السينما.

سنة 1952، أخبر نجيب محفوظ المقربين منه أنه انتهى ككاتب، وسيقتصر دوره لاحقًا على كتابة السيناريو، لكنه عاد بالثلاثية عودة قوية، وكان صومه عن الكتابة - وإن لم يقرر هو ذلك - فتحًا جديدًا في دنيا الأدب، وفي الوقت نفسه ينم عن أسباب ما تحجب المبدع عن مواصلة الطريق؛ فإما أن يتوقف تمامًا مثلما فعل صديقه المقرب عادل كامل، وإما أن يعود عودة قوية، كعودة محفوظ من بوابة بين القصرين مرورًا بقصر الشوق إلى السكرية.

لم يكتب محفوظ ثلاثية بادئ الأمر، إنما كتب رواية تحكي قصة ثلاثية أجيال، ولما سلَّم العمل للناشر كان في حدود 1160 صفحة؛ اقترح الناشر تجزئة العمل إلى ثلاثة أجزاء، ومن هنا عرفنا الثلاثية. عرف القرن العشرين ثلاثة أعمال في شكل ثلاثية؛ ثلاثية الأديب الجزائري محمد ديب (الدار الكبيرة، الحريق، النول)، وثلاثية الأديب السوري صدقي إسماعيل (العصاة آل فرعون، الصديقان، العصبة)، ثم ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية).

كتب ديب ثلاثيته بالفرنسية ونقلها إلى العربية سامي الدروبي، وقد نقل الأدب الروسي من الفرنسية كذلك، وهي ثلاثية نقدية لا تسجل ولا تخصص، بل تنقد وتعمم، حتى سمَّى دار إسبيطار "الدار الكبيرة" في إشارة للجزائر بأكملها، وتجري أحداثها في ظل جيل واحد. أما ثلاثية محفوظ فتدور في ثلاثة أجيال، وعامرة بالصراع والشخصيات، في حين أن ثلاثية ديب بسيطة قليلة الشخصيات تقليدية السرد، وصفها ديب بأنها "لوحة".

توقف محفوظ عن الكتابة قبل أن يظهر علينا بالثلاثية، ثم توقف بعدها مرةً أخرى! التوقف عن الكتابة أو قفلة الكاتب لها أسباب كثيرة، لكن المبدع يخرج منها بجلدٍ جديد ويتفوق على نفسه، وقد كتب غابريال غارسيا ماركيز السيناريو، وأصابته قفلة الكاتب مرتين. الفرق بين محفوظ وماركيز بخصوص كتابة السيناريو أن ماركيز احترف كتابة السيناريو لدرجة أنه في بعض الأحيان كتب سيناريوهات ثمانية أفلام في وقت واحد، أما نجيب محفوظ - فمع إتقانه لكتابة السيناريو - لم يشتت نفسه بين كتابة الرواية وكتابة السيناريو.

في الجزء الثاني، نعرض لأهمية الثلاثية كعلامة فارقة في أدب محفوظ، وكذلك لآراء نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس في الاختلاف بين كتبهم والأعمال المأخوذة عنها سينمائيًا، ولماذا يحدث هذا البون في الطرح والمعالجة؟!