على هامش سيرة المواطنين الشرفاء

على هامش سيرة المواطنين الشرفاء

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
(1)

طيلة العام، لا يترك المواطن "الشريف" فرصة للاحتفال بذكرى تحرير أبطال حرب أكتوبر لأرض سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، لكن نفس المواطن يلومك بعزم ما فيه لو استنكرت التعذيب والقتل العشوائي والإخفاء القسري وتفتيش الهواتف المحمولة لعقاب المواطنين على آرائهم واقتحام البيوت دون سند قانوني والخوض في الأعراض، مع أن تلك الممارسات تليق بقوات الاحتلال والعصابات الإجرامية، ولا يمكن أن ترتكبها سلطة مدنية تحترم القانون ويحكم أداءها الدستور، فالمواطن الشريف يحب الحديث عن بطولات تحرير الأرض، لكنه في الوقت نفسه يعتبر الدفاع عن الحريات والحقوق عبطاً وتهوراً إن لم يعتبره خيانة وعمالة.
يمكن أن يسمعك المواطن "الشريف" قصائد شعر عن الكرامة والعزة والتحرير، لكنه يمكن أيضاً أن يبلغ عنك أجهزة الأمن لو جرؤت على الاعتراض على عبد الفتاح السيسي، أو طالبت بمحاسبته على بنائه لقصور رئاسية بمليارات الجنيهات في بلد يُحرم شعبها من حقه في الصحة والتعليم ولقمة العيش، أو على إدارته الفاشلة لأزمة سد النهضة التي تصور أنها يمكن أن تُحلّ بالحلفان على الهواء.

يحتفل المواطن "الشريف" كل يوم تقريباً بفيلم (الممر) وأبطال فيلم (الممر) وسيرة فيلم (الممر)، لكنه يمكن أن يمرّر عيشتك ويلعن سنسفيل أجدادك، لو ذكّرته بأن أرض سيناء التي يحتفل كل لحظة برجوعها إلى حضن الوطن، تعيش منذ سنوات داخل ثقب أسود، فلا يعرف أحد شيئاً عما يجري فيها ولأهلها، ومن يحاول أن يفهم ما يجري فيها ولأهلها، يكون مصيره مثل مصير الباحث الشجاع إسماعيل الإسكندراني الذي تعرض للسجن والمحاكمة العسكرية بسبب ما نشره عن أوضاع سيناء المأساوية، فالمواطن "الشريف" يحب أن يفتخر برجوع سيناء، لكنه ليس مشغولاً بمعرفة ما إذا كانت قد رجعت لنا كاملة بالفعل، وليس مهتماً بالبحث عن أسباب فشل نظام السيسي في تحقيق وعوده بالسيطرة على سيناء وتسليمها متوضئة خلال أشهر انتهت منذ سنين.
يحب المواطن "الشريف" أن ينشر على صفحته في الفيس بوك ذلك المشهد المقتطع من فيلم (الممر)، الذي يتبارى فيه الجنود المصريون في ضرب الأسير الإسرائيلي الذي يلعب دوره إياد نصار، يعتبر ذلك المشهد دليلاً على النصر والكبرياء والعزة، لكن المواطن "الشريف" في الوقت نفسه سيبادر لاتهامك بالخيانة لو تحدثت عما تنشره الصحف الإسرائيلية بانتظام عن التعاون الأمني الوثيق بين إسرائيل والنظام المصري للسيطرة على سيناء، وعن تورط عبد الفتاح السيسي في صفقة شراء غواصات لا تحتاج إليها مصر، مجاملة منه لصديقه الاستراتيجي بنيامين نتنياهو.
المواطن "الشريف" يكره الأسئلة ويعتبرها من نواقض الوطنية، يحب سيناء ويتشكك في أهلها، يتهم معارضيه بالعمالة لإسرائيل، لكنه لا يجد مشكلة في تباهي قادته بالعلاقات الأمنية الوثيقة بإسرائيل ولا في بيع الغاز لإسرائيل، يحب المسجد الأقصى وقبة الصخرة وسورة الإسراء، لكنه يكره الفلسطينيين ويحلف لك أنهم باعوا أرضهم لإسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يتهمهم بالجهل والتخلف حين يقاومون إسرائيل لأنهم أضعف منها بكثير، يكره كل المدافعين عن الحقوق والحريات من أي اتجاه أو تيار، ويعشق عبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي وعمر سليمان وأدولف هتلر وهتلر طنطاوي وكل من له صلة بالبدلة الميري والبيادة ولو كان من أكلة مال النبي.
يفتخر المواطن "الشريف" بقصص الإخاء بين المسلمين والمسيحيين وبشعارات الوحدة الوطنية ويدمعه عناق الشيخ والقسيس في الأفلام، لكنه يمكن أن يشارك بكل همة في هدم كنيسة بنيت على ناصية شارعه، يكره التكفيريين لكنه لا يكف عن تكفير وتخوين خصومه السياسيين، تطمئنه قراءة أخبار صفقات الأسلحة، وتقلقه أي أسئلة عن الهدف منها أو عن عمولاتها أو عن من يراقبها، يمكن أن يلقي عليك خطبة عصماء في عدالة الإسلام وتسامح المسيحية، لكنه يتحمس لسحق كل من يعارضون رأيه وإعدامهم وضربهم بالرصاص، يتحدث عن أهمية العلاقات القوية مع أفريقيا لضمان مصالح مصر القومية، لكنه بعدها بجملتين يمكن أن يقول كلاماً عنصرياً يحتقر فيه الأفارقة ويستغرب عدم ضربهم تعظيم سلام لتصوراته عن النيل والكون والحياة.
المواطن "الشريف" يفرحه دائماً الكلام عن النصر الوحيد، ويهمه تبرير الهزائم المتعددة، ويبهجه إنكار الفشل الذي يحاوطه من كل اتجاه، لأنه يحب الحديث عن تحرير الأرض، لكنه لا يكره في الدنيا شيئا مثل محاولة تحرير الإنسان.

(2)

قبل شهيد التذكرة محمد عيد رحمه الله، وبعد من سيأتي بعده من شهداء الفقر في مصر، ستبقى الجريمة الحقيقية مرتبطة بتصورات عبد الفتاح السيسي ونظامه وأغلب أنصاره من المواطنين "الشرفاء" للفقراء.

الفقراء عندهم محبوبون في المقام الأول كشهداء في سيناء وكمائنها، وحين يستشهدون، يطول مفعول محبتهم يوماً أو يومين، أسبوعاً بالكثير، لكنهم حتى وإن تم نسيانهم بعد ذلك يُستدعون من حين لآخر كسلاح فعال في المماحكات الوطنية اليومية على مواقع التفاعص الاجتماعي، لن يستطيع أحد مقاومتك حين تستخدم صورة جنازة حاشدة لمجند شهيد في قرية أو حارة، لتشخط بعدها فيمن يعترض على غلاء الأسعار ورخص العيشة، والمدهش أنك لو نشرت صورة لمواطن قتلته الشرطة أو دفعه كمساري من القطار لأنه لا يملك ثمن التذكرة، أو صعقته الكهرباء خلال أداء واجبه، سيتهمك نفس الشخص بالتجارة بدماء الفقراء، وسيجد مشكلة في وصف المواطن القتيل بالشهيد، لأنه لم ينل ختم الشهادة الميري.
لو خلع المجند الشهيد بدلته العسكرية ولبس على قد حاله، يمكن أن يكون مكان محمد عيد، تحت عجلات القطار، وعندها للأسف لن ينال نفس التعاطف، وسيجد من يتحدث عن سرقته للمال العام، ومن يلقي محاضرة عن ضغطه هو وأمثاله على ميزانية السكة الحديد والصحة والتعليم والخدمات، وسيصبح حينها واحداً من أولئك الذين يتحدث عنهم مواطنو السيسي "الشرفاء" بوصفهم أكبر مشاكل الوطن، أولئك الذين يزربون العيال زرباً ويربون كروشهم ويأكلون الكثير من الأرغفة ويستهلكون ميزانية الصحة والتعليم والطرق، ويمنعون مصر من أن تحتل موقعها القيادي في العالم، لأنها ابتليت بملايين الفقراء.
للأسف الشديد حين تفقد بدلتك الميري يفقد دمك قداسته لدى المواطنين "الشرفاء"، ويجوز إطلاق وجهات النظر بخصوص دمك، لذلك عليك أن تلتزم بالدور المرسوم لك في الفيلم الوطني، إذا كنت فقيراً يستحسن أن تكون مجنداً شهيداً، ستكون عندها أنفع لقائد قطار الوطن وأنصاره منك حياً، وسيحبونك أكثر، صحيح أن حبهم لك لن يطول، حتى يأتي غيرك، لكنك ستكون أفضل من ملايين غيرك، لم يتمتعوا بمثل هذا الحب أبداً.
السيسي وأنصاره من المواطنين "الشرفاء" يحبون أيضاً الفقراء كراقصين أمام اللجان الانتخابية، لأنهم يحبون الرقص من أجل الوطن، وتبهجهم أي هرتلة يطلقها الفقراء أمام الكاميرات في المناسبات الوطنية، ويمجدونها لأنها تعبير عفوي عن الوطنية، شريطة أن يتم تنقية المشاهد المصورة من أي توزيع لكراتين المواد الغذائية أو الأوراق النقدية أو الهدايا العينية أو الأتوبيسات المحشودة، ولذلك كلما أثبت كفقير أنك عفوي في رقصك ومحبتك للقائد، كلما أحبك السيسي وأنصاره أكثر، أياً كان مظهرك وأياً كان "تون صوتك"، لكن ويا سبحان الله، هناك شيئ يجعلك منفراً وكريهاً في أعينهم، فقط حين تعترض أو تشكو أو تلعن سنسفيل المسئول عن أزماتك، حينها يرون التطجين في صوتك والبؤس في ملامحك والرثاثة في مظهرك، وحده الرقص أمام اللجنة أو الهتاف في المناسبة الوطنية يجعلك أجمل في عيونهم، فإذا كنت فقيراً ولم تكن مجنداً شهيداً، كن راقصاً وهتيفاً ومهرتلاً بحب السيد الرئيس، يحبك الرئيس وأنصاره أكثر.
إذا كنت فقيراً، ولم يكن لك في الرقص والهتاف والزياط، كن صامتاً طيلة الوقت، دائماً سيكون لك مكان في صفوف الأغلبية الصامتة، إياك أن ترد أو تعلّق حين توصف بأنك عبء ومشكلة وأزمة وكبّة على قلب الوطن، تجاهل ما يقولونه عن شكلك ومنظرك ووزنك وصوتك وسلوكك، وحين يطلبون منك إخلاء منزلك وقع على الفور وخذ ما فيه القسمة واصمت، حين تفقد ابنك أو ابنتك خذ التعويض واصمت، وحين يأتي المسئول ليقبل رأسك أمام الكاميرات انحنِ وخذ القبلة واصمت.
لا تأتِ أبداً بسيرة الحقوق على لسانك، لأنها إن لم تأتِ لك بالبوكس والضابط المقنّعين، ستأتي لك أقلّه بالبهدلة والتخوين وقلة القيمة، لأن هناك شيئاً ما يرغّب أنصار قائد قطار الوطن في السخرية من كلمة الحقوق وفي التعامل العدائي مع من يتحدث عنها، لذلك تجاهل الحديث عنها تماماً، يستحسن أن تتجاهل الحديث بشكل عام، "خليك في السيف سايد" واصمت، لكن حاول ألا يبدو صمتك عدائياً أو ساخطاً، لأنه ينشط غدة الشك في ميولك المعارضة المكبوتة، ولذلك كلما بدا صمتك راضياً أو منكسراً أو مستسلماً كلما أحبك السيسي وأنصاره أكثر.
باختصار، إذا كنت تريد أن يحبك حراس الوطنية من المواطنين "الشرفاء" في هذا الزمن، فلتقل تعريصاً أو لتصمت، فقد أصبح التعريص شرط الوطنية الأول والأخير.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.