حكايات سورية (1)

حكايات سورية (1)

07 أكتوبر 2019
+ الخط -

في مستهل سهرة الإمتاع والمؤانسة؛ حدثنا الأستاذ كمال عن حادث سير وقعَ أمام منزله في حي البيطرة بإدلب. قال إنه كان واقفاً على شرفة بيته، فرأى سيارة شاحنة من طراز "هنشل ألماني" قادمة من الغرب في الطريق المنحدر، وعلى يسار الطريق كانت تمشي سيارة صغيرة من طراز "فورد 55".. سائق الهنشل أطلق زموراً قوياً، منذراً سائق الفورد بضرورة التوجه إلى يمين الطريق، ولكن يبدو أن السائق ضعيف السمع، فلم يستجب، وحصل الاصطدام، وصدر عنه زعيق حاد، واستدارت السيارتان، رغماً عنهما في عرض الطريق، وسارتا حتى وصلتا إلى مُنَصِّف الشارع حيث اتكأت الهنشل على خاصرة الفورد كما لو أنها تحتضنها.
قال أبو ماهر الحموي: أنا ما بعرف شوارعْ مدينة إدلب، لاكن تصويركْ للمشهدْ -يا أستاذ كمال- خلاني أحسّْ وكأني الحادثْ عم يصير قدامي. بس حبيت إسألك: ليش سموها "فورد 55"؟
قال كمال: راح إحكي لك قصتها من أولها. هاي السيارة في الأساس كانت لمحمود آغا البرمة، الله يرحمه، وهيي موديل سنة 1955، وكانتْ في البداية تشتغلْ ع البنزين، وكان محمود آغا ما يهتمّْ لمصروفْها لأنه أمورُه المادية كانت فوق الريح، لاكنْ لما عتقتْ السيارة، وأحوالْ محمود آغا المادية تضعضعت بنتيجة قرارات التأميم اللي عملها حزب البعث الحاكم سنة 1964، راح على حي السليمانية بحلب، وسَلَّمْهَا لمكنسيان أرمني اسمه كرابيتْ، وقال له:
- يا خواجا كرابيت، متلما بتعرف هاي السيارة أميركانية، والأميركاني بالأساس بيصرف كتير، ولما السيارة الأميركانية بتعتق بتصيْر تصرف زيادة، الله وكيلك ما عَمْ ألَحّقْ لْها بنزينْ، لسه ما بعبي الدابُّو (الخزان) بلاقيه فِضِي..
قال له كرابيت: بسيطة آغا لا تاكلي هَمّ، هادا السيارة نحنا منقلبُه عَ المازوت، ومِنْظَبّطُه على أربعة وعشرينْ قيراطة، لاكن بيكلفْ مصاري، إنتي بتدفعي؟
ضحك محمود آغا وقال له: نعم، أنا بدفعي.
وعطاه سلفة، وترك السيارة عنده ومشي. كرابيت مو بس قَلَبْ السيارة عَ المازوت، كمان شال منها الراسورات اللي بتخلي الراكب مرتاح، وحط مكانْها مقصات حديديـة مدوبلة، وقَــوّى قشرتْها الخارجية بالصاج والرفاريف المصنوعة من الحديد المْبُوْلَدْ، حتــى صارتْ متل عربة البي. تي. إر. السوفييتية المخصصة لنقل الجنود في المعارك ضد الشعوب الغلبانة. ولما سأله محمود آغا عن سبب تغيير الراصورات وتركيب المقصات قال كرابيت:
- هيك أحسن محمود آغا، الطرقاتْ تبعنا مليانْ جُوَرْ وحجارْ وبحصْ، والزفت تبعنا بشعة ومزفتة. هلق هيك السيارة صارْ قوي كتيرْ، إذا بيطجّ ما بيأثر عليه شي. بعدين إذا إنتي بدك تبيعي السيارة بتلاقي زبون كتير، ليش؟ لأنه هادا السيارة صارْ عَ المازوتْ، يعني مصروفه قليل، وصار بينقلبْ عمومي، وسيارة العمومي بيشيل ركاب كتير.. يمكن يوسع خمسطعــش راكـب، أستغفـر الله عظــيـم.
قال أبو الجود: مو بس بتشيل ركاب كتير، هاي السيارة أنا بعرفها من أيام ما كانت نمرتها خصوصي، وكانت تشتغل بنقل الركاب بين معرتمصرين وضيعتنا، وكانت بالفعل تعبّي أكترْ من عشر ركاب، ما عدا أكياس البطاطا والباتنجان والبرغل والفليفلة.. وإذا بتفتح الطابون الخلفي بتلاقيه مليان قراطل تين وعنب، وبيض بلدي، وبيدونات مليانة دبس وزيت ومطربانات جبنة ولبن ودبيركة.. مين بيعرف مخفر معرتمصرين القديم؟
قال أبو محمد: نحنا الكبار بالعمرْ منعرفُه. الشباب الجدد أكيدْ ما بيعرفوه لأنه ما عاد موجود هون، انتقل لمكان تاني.
قال أبو الجود: من الطرف الشمالي للمخفر القديم كان في مقهى اسمه مقهى الشايب، وقدام المقهى كانوا يوقفوا السيارتين تبع ضيعتنا. وحدة ماركتها دوزوتو، كمان أميركاني، وكمان قالبينها ع المازوت، وكانت مصفحة أكتر من "الفورد 55"،. ذات مرة هاي الدوزوتو ضربت بالحيط تبع المدرسة الابتدائية اللي على طريق إدلب، وكانوا الناس يسألوا صاحبها (انشالله ما في ضرر؟)، وكان يضحك ويقول: السيارة الحمد لله ما تضررت، لاكن حيط المدرسة وقع، ومديرية التربية والتعليم رفعت علي دعوى، وغرموني بخمسين ليرة. تصوروا حطيت خمسين ليرة مع أني أنا مشتري السيارة كلها بميتين ليرة.
عندما يتضايق أبو جهاد من "أبو الجود" ويحب أن يسخر منه فإنه يلقبه "الأستاذ". قال مخاطباً إياه:
- مع احترامي إلك أستاذ أبو الجود، نحن منعرف إنك فهيم وبتحفظ قصص وحكايات، لكن بعد أمرك بدنا نعرف بقية القصة تبع الأستاذ كمال.
قال كمال: طيب. لما الهنشلْ ضربت الفوردْ وشحطتْها صوب الجزيرة اللي بتتوسط الشارع، صارْ تقلْ السيارتينْ على عمود الكهربا المزروع في النص.
قال أبو إبراهيم: الله يرحمْ هديك الأيام، كان لسه فيه إنارة للشوارع.
قال كمال: نعم. كان في إنارة. وهادا العمود المصنوع من الخراسان (البيتون المسلح) كان بنهايته من فوق لمبة نيون غازية جيدة، لاكن المشكلة إنه اللمبة بتشتغل في أوقات غير مناسبة، كانت تبقى مضواية طول النهار، ولما ينزل الليل عَ البلد كانت تنطفي!
في هذه الأثناء بدأ صاحب البيت وأبناؤه يضعون أطباق الطعام على السفرة. قال كمال:
- السيارتين، الهنشل والفورد، لما ارتكوا على عمود الكهربا، وقعوه، وبعدها صارت أحداث غريبة، بعدما نتعشى منكمل السيرة.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...