محاولة قتل أثناء تحصيل الضريبة

محاولة قتل أثناء تحصيل الضريبة

26 أكتوبر 2019
+ الخط -
بما أننا نعيشُ ونعقد جلسات "الإمتاع والمؤانسة" في مدينة إسطنبول التركية، فقد صادفَ أن تَدَخَّلَ بعضُ الحاضرين الذين يتعلمون اللغة التركية ليشرحوا لنا معنى مفردة يستخدمها العرب والأتراك بالمعنى نفسه. مثلاً، حينما كان أبو الجود يحكي لنا عن صديقه "أبو خلدون" الذي تعرف إليه في السجن وصار يحكي معه بلغة خشنة (على العريض)، ويقول له: يا قَبَضَااااي.. تدخل أبو إبراهيم وقال: 

- أصلْ كلمة "قَبَاضاي" تركي، وبتتألف من مقطعين (Kaba) و(Dayı) وتعني الخال الخشن. وكلمة (Kaba) يستخدمونها في حلب بمعنى الغليظ، ولكنهم يلفظونها (Aba). وإذا بدهم يذموا واحد بيقولوا: ولي عليه شْقَدُّه أَبَا.

قلت: من جهة ثانية، وتأكيداً لكلامْ أخونا أبو إبراهيم، بعضْ القبضايات عندنا في سورية بيستخدموا كلمة (خال) في سياق الرجولة والمعكدية، وكل كلمتين والتالتة بيقلك: دارتْ لَكْ شلون خال؟ على راسي يا خال! 

قال أبو محمد: وعدتونا إنكم تحكوا لنا عن بعض فصول "أبو خلدون"، وأنا شايف عم تضيّعوا الوقتْ بالكلام المشترك اللي بيننا وبين الأتراك. 

قال أبو الجود: من زمان، لما كنتْ أنا إشتغلْ "شوفير" سيارة، نصحني والدي إني أتوظفْ عند الحكومة، لأنه الموظف في آخر الشهر بيقبض الراتب إذا اشتغل أو إذا كان عواطلي وبيتهرب من الشغل. وأنا كنت عواطلي طبعاً، وما بحب الشغل، فقرر مدير الدائرة تبعي إنه يسرحني. 

قال أبو جهاد: عن جد هادا المدير شخص فهيم. أنا لو كنت مكانه بسرحك.

قال أبو الجود: لاكن زملائي في الشغل تضامنوا معي، صحيح أنا ما بشتغل، بس كنت إحكي لهم حكايات وسليهم وضحكهم. المهم صاروا يحكوا للمدير عن الوضع الــ.. الـ..

قال كمال لإنقاذ أبي الجود من التأتأة: الوضع المُزري..

قال أبو الجود: نعم. في واحد من اللي حكوا مع المدير كان يقله: وضع أبو الجود مُزري.. وفي واحد تاني، بعدما شرح للمدير إني عندي ولاد كتير، وفقير، وما عندي شي ينباع.. قال له: عَمْ يقبض راتب كل راس شهر ووضعه مُزري، فكيفْ لو سرحتوه وصفي بلا راتب؟!

قال كمال: بتذكر بوقتها إنهم نقلوك عَ مديرية المالية.

قال أبو الجود: نعم. وطلبوا مني أرافق موظف الجباية "أبو عليان"، وهادا رجل مفلس وأندبوري، متلي، الراتبْ تبعُه بيكفيه خمس أيام بأول الشهر وأحياناً ست أيام، وبعدها بيصير بيقترض من رفاقه. أبو عليان كان عندُه حكمة أنا حبيتها كتير، وهيي إنه الموظف لازم يشتغل على قَدّ الراتبْ. يعني ما يُعَادلْ خمسة أيام أو ستة أيام في الشهر.. منشان هيك أنا حبيته، وصار بيناتنا صداقة ووحدة حال. ومرت علينا سنة أو أكتر وأنا وأبو عليان عايشين سمن على عسل، وإذ في يوم من الأيام بيموت رئيس دائرة الواردات، وعينوا مكانه رئيس واردات جديد.. ومن هون بلشت المشاكل.

قال أبو جهاد: حلو. أكيد هادا المدير الجديد طلب تسريحكم إنته وصاحبك أبو عليان.

قال أبو الجود: يا ريت لو طلب تسريحنا. كان بده يحاسبنا على التقصير، ويفرض علينا غرامات، واجتمع مع المدير وقال له إنه في كتير ناس مكلفين بالضرائب عم يتهربوا من الدفع، وإنه الجابي أبو عليان والسائق أبو الجود مقصرين في ملاحقة المتهربين من تسديد الضرائب. المدير رجل هادئ ومتفهم، وبيعرف طبيعة الشغل في بلادنا وفي مديرتنا، منشان هيك اجتمع معنا أنا وأبو عليان، وقال: لا تخلوا رئيس الواردات الجديد يزعل منكم. متلما بتعرفوا كل واحد بيتعين جديد بيكون متحمس. حاولوا إنكم تراضوه. 

قلت: باعتبار عندي شوي خبرة في كتابة الدراما بحب أقولْ إنه مدة السنتين اللي مضاها أبو الجود في الوظيفة خالية تماماً من الدراما، ولما قال "بلشت المشاكل" منكون دخلنا في الدراما بشكل جدي.   

قال أبو محمد: طول بالك أستاذ. أنا ما بفهم بالدراما، وأكيد كلامك صحيح. لاكن اللي فهمته إنكم كنتوا عم تحكوا عن واحد اسمه "أبو خلدون"، وفجأة صرتوا تحكوا عن مديرية المالية والجباية والواردات والجابي أبو عليان.

قال أبو الجود: صح. والله معك حق يا عمي أبو محمد. بس أبو خلدون موجود في القصة. هلق راح يجي دوره. يا سيدي أنا والجابي أبو عليان فكرنا بكلام المدير، واتفقنا نعمل قائمة بأسماء الأشخاص اللي عم يتهربوا من دفع الضرايب، ونطلع برفقة رئيس الواردات الجديد بجولة على المتهربين، ونحصل منهم الديون. وبالفعل صار هالشي. الجابي أبو عليان جهز القائمة وقال لي: شغل السيارة. أنا شغلت السيارة وطلعنا، وأول واحد من المتهربين من دفع الضرايب كان "أبو خلدون".

قال أبو ماهر: عجيبة. هادا أبو خلدون مو مفلس؟ كيف بيفرضوا عليه ضرايب؟

قال أبو زاهر: سورية بلد العجايب، أكيد مطالبين أبو خلدون بضريبة التركات.. للأسف البيت الدرويش المهرهر اللي الإنسان بيتآوى فيه بيفرضوا عليه ضريبة تركات إذا كان ورتانه عن أبوه إضافة إلى ضريبة الإملاكية. 

قال أبو الجود: أبو خلدون ممتنع عن دفع ضريبة التركات من شي عشر سنين أو أكتر. المهم. دقينا عليه الباب، صاح من جوة: مين؟ قلنا له: جباية المالية. قال: دقيقة جاية. وبعد شوي يا شباب طلع أبو خلدون وعيونه حمرا وبإيده سيف متل سيف عنتر ابن شداد، ووقف قدام الباب وصار يبرم السيف في الهوا، ويصيح: هييه.. مين القبضاي اللي جاية يطالبني بالضريبة؟ أنا أبو خلدون على سنّ الرمح.. ضرايب ما بدفع ولاك!

ومد السيف ع السيارة وقال: بدكم ضرايب ولاك؟

قال رئيس دائرة الواردات الجديد وهو يبعد نفسه من مرمى السيف: أبداً يا أخ. نحن جينا لنتعرف عليك ونستأنس. 

وقال لي: امشي أبو الجود. بسرعة اطلاع من هون!

وغادرنا المكان، ورئيس دائرة الواردات بقي شي ربع ساعة ينفخ ويلهت ويبلع ريقه.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...