منظور عين النملة

منظور عين النملة

25 أكتوبر 2019
+ الخط -
أثناء دراستي في كلية الهندسة المعمارية، تعلمت عن أشكال المنظور التي نرسم من خلالها البناء، وهي تختلف باختلاف موقع رؤيته بالمقارنة بخط الأفق، فهناك منظور عين الطائر والذي نرسم فيه البناء من السماء وكأننا بذلك طيور تحلق فوق البناء تلتقط لحظة معينة له، أما في منظور عين الناظر، فنرسم المبنى من منظور المشاة، فيكون خط الأفق المحدد مماثلا لأعيننا أثناء مرورنا بجانب البناء. وأخيرا منظور عين النملة، ويعني رسم البناء بعظمة وإظهار ضخامته وصرحه وكأننا نرى بعين نملة تدب على الأرض.

في أيامنا هذه، غمرنا خلال شهر وربما أكثر تسونامي من الأخبار السيئة، فأكاد لا أصدق أن تكون هذه أيام شبابي، أنظر إلى أخبار الموت، وأخبار الحروب، وأخبار المظاهرات وأخبار الحرائق وأخبار سلطة الباطل الذي أريد به حق، ولا أملك أدنى ذرة من القدرة على مواجهة هذه الأخبار السيئة، فأستسلم لرمادية الأجواء، أضع كفي على وجهي وأسند رأسي به وأفكر.. ما الذي بإمكاني فعله.. لا أدري ما الذي يغلب كل هذا؟ فأنا أرى هذه الأخبار من منظور عين النملة، تتراكم فوق كاهلي ويتعاظم حجمها وتصبح ثقيلة كأقدام جند النبي سليمان حين استغاثت له. هنا يصبح مفيدا ما تعلمته في دراستي!

في غمرة الأخبار السيئة التي تسحبني إلى قعرها الحالك كثقب أسود يبتلع ما حوله، تأتي أخبار جميلة مشرقة تنتشلني إلى السطح كما تضيء شمس منيرة مجرتنا الهائلة.. لا أدري ماهية المشاعر التي أحس بها، عندما أرى مظاهرات الأحرار في لبنان.. كيف تجاوز الجميع الانشقاقات التي دائما ما ميزت المجتمع اللبناني؟ كيف أصبح الجميع صوتاً واحداً قاهراً للجميع؟ أحرار النبطية وصور تميزوا بسبب القهر المضاعف الذي يعانونه وخوف تجاوز سلطة الدين التي تميز السلطة هناك، وتظهر تلك السيدة اللبنانية التي تركل رجل أمن يقوم بإطلاق النار من بندقيته في الهواء، غادية بذلك أيقونة للثورة اللبنانية. أرى بيروت جميلة لأول مرة.. تلمع في عيني كجوهرة الشرق.. وخاصة باحتوائها جميع ثورات الشعوب العربية الأخرى. 

لكن في غمرة هذه الأحداث ربما يطغى عليّ شعور واحد هو الخوف على هذه الجوهرة، أخاف عليها كأنها ابنتي… لا أريد أن يحل بها ما حل ببقية الثورات، وخاصة السورية…

أشعر بأننا نمشي في منطقة براكين.. كل يوم أستفيق على خبر انفجار بركان، لا شيء مستقر.. ولن يعود الاستقرار أبدا.. وستبدأ البراكين بإخراج كل ما خبأته منذ مئات السنين من قهر وعذاب وظلم وفساد وقذارة وتلفظه على سطح البسيطة لتنظيف تجاويفها، وستبدأ الأرض بالانشقاق لتبتلع الظلم الذي حاق بأهلها… أو ربما هذا ما أعتقده.

لكم أود أن أرى العالم من منظور طائر، أحلق فوق الأرض وأرشها ضياء وألوانا، أنشر ابتسامات هنا وهناك. كبار وكبيرات السن يحظون برشة مميزة من السعادة.. أحلم بوطن يعم فيه التفاهم والتسامح… لن تنعدم المساوئ لكن أن نكون مجهزين بأسلحة التعاطف والتفهم والتسامح والرحمة سيجعل الحياة ذات لون أجمل.

ربما يكون للنملة يوم قريب يدوي فيه دبيب خطواتها كزئير رعد يهز السماء، تقلب فيه موازين القوى على جند سليمان ويحق الحق عندئذ وتجد نفسها تنظر من منظور عين الطائر.

يارب!

دلالات

8ABCAC01-1245-48ED-ABFE-223407FDAB16
هدى فنصة

مهندسة معمارية سورية. حاصلة على ماجستير في العلوم، اختصاص البناء والتصميم العمراني في التنمية من "وحدة تخطيط التنمية" في كلية لندن الجامعية UCL، بالإضافة إلى درجة الماجستير التأهيلي في هندسة المدن، تنمية المدن المستدامة من سورية وفرنسا.

مدونات أخرى