المُلك اليوم للدولة

المُلك اليوم للدولة

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
قبل قرنين أو ثلاثة، كان من المستحيل في الثقافة الإسلامية إطلاق لفظ الجلالة على كائن بشري مهما بلغت مرتبته. لأنه وصف حصري لله. لكن العبارة اليوم متداولة وبقوة لدرجة لم تعد تثير لا الغرابة ولا النقاش ولا حنق الناس. تحديدا عشاق القداسة المتباهين بتدينهم أو من لدن المؤمنين الأقحاح.

وقع هذا الارتباط العجيب المستفز، الذي وصل حد التعالق المتماهي كليا بين عنصرين متناقضين، في فترة بدأت الدولة تحتل قلوب الناس، لتعوض تعطشهم الطبيعي والصميمي لشيء مقدس يتمسكون به كقناعة إيمانية من جهة، ومصدرا للنفعية يستعملونه لقضاء أغراض ومستلزمات يومية من جهة أخرى.

تاريخيا، وقع هذا الأمر مع نشأة الدولة القومية التي باتت أكثر التصاقا بحياة الناس من حيث الحدود الجغرافية أو اللغة الخاصة كالفرنسية بدل اللاتينية، مما أسهم في تقوية رابط الانتماء بين الجماعات مع تعزيز الخصوصية المجتمعية لشعب في مقابل آخر.

هذا الأمر تزامن مع اكتشافات معرفية ودينية وتاريخية تفاعلت لتزيل سلطة الكنيسة عبر اكتشاف خطاياها، مما أدى لإزالة دورها الوظيفي في حياة الناس، سبقها تمهيد نفسي بأن تخلى الأفراد عن نظرة الاحترام والتقديس التي عششت طويلا في خواطرهم. فبادرت الدولة كممثل دنيوي للناس إلى اقتباس هذا التقديس من الكنائس والأديرة إليها بمكوناتها العديدة من البرلمان إلى مقار الأمن الفخمة النقيضة للمدارس المتهالكة. فأصبح ممثل الدولة الأول وهو الرئيس، خصوصا الملك في الأنظمة غير الجمهورية، هو الإله الجديد للناس.


أحد الفلاسفة الأوائل اليقظين الذي أدركوا جوهر هذا التغير هو نيتشه. لنستمع إليه في كتابه الأهم "هكذا تكلم زرادشت" وهو ينغص بمطرقته الثقيلة على الحكومات قداستها الجديدة المنتزعة عنوة من الدين، حين يقول: "انظروا إلى هذه الحكومة كيف تجتذب الدخلاء. فتضمهم إلى قلبها وتشبعهم عناقا وتقبيلا، وهي تهدر قائلة: ليس هناك أعظم مني على وجه الغبراء، فأنا يد الألوهية المنظمة".

يبدو جليا أن موقفا كهذا ليس سطحيا يبغي معارضة جهاز الدولة باعتبارها إنجازا حداثيا، له دور في تنظيم حياة الناس بالطريقة المثلى، الأكثر نجاعة. كلا إننا أمام تحذير عبر تشبيه بليغ من انحراف مهمة معقولة للحكومات والدول للتملص من دورها التعاقدي المؤطر في حدود معينة، للسير نحو أدوار تمس جوهر البشر في حريتهم مثلا، لِتُقزم وجودهم، مختزلة إنسانيتهم في صفة المواطنة. وتنفي بالتالي كل تعريف آخر خارج صورة بطاقة التعريف الوطنية. وهي حالة متطابقة تماما، بل وأشد خطرا من ادعاء الكنيسة أنها السبيل الوحيد للوصول إلى الله، وبالتالي إلى عيش كريم، بل وتحقيق الخلاص من الخطيئة الكبرى.

عملية سرقة القداسة من الدين لفائدة الدولة هذه لها أمارات عديدة فيها متفاعلة فيما بينها بنيويا، تعزز أن الأفراد خرجوا من قهر ديني كثيرا ما جنا عليهم، إلى غبن دنيوي ليس بأفضل من الأول -خاصة في سياق الدول غير الديمقراطية- لعل تعويض القيمة الرمزية والإعتبارية والمادية التي طالما أخذها القساوسة والفقهاء والأحبار لصالح أداة الدولة وهي الجنود ومكونات الجيش بصفة عامة.

فلقد بات زي الضباط يثير اللهاث واللهفة والرهبة في النفوس بعدما كان رداء رجال الدين هو "الماركة" المسجلة باسم المحظوظين وأولي النعم. لدرجة أصبح الجيش في مثل هذه الدول حصان طروادة الذي لا يأتي أحد على ذكره، فما بالك بانتقاده. ولو على حساب وضع المجتمع برمته، علما أن الجيش والجند هما وسيلة لغاية أكبر هي العيش الطيب للناس. بيدا أن منطق التملك الديكتاتوري رأي آخر.

لهذا النموذج من القداسة المغتصبة مظاهر اجتماعية. قد تكون أحيانا عشوائية، لكنها دالة بقوة على التغير الجديد. كأن تسمع يوميا خطابات تسب وتلعن الرب بأقدح أنواع والشتم دون أثر قانوي أو تأثير في الحس الأخلاقي للمواطنين. بينما مجرد القيام بسبّ ملك أو حاكم أو مجرد توفر النية للقيام بالأمر. قد يؤدي بالمرء إلى عواقب قانونية وأخلاقية لا مخرج لها سوى ظلمات الزنازين.

لا غرابة في ذلك، نظرا لأن عملية استبدال منظومة القداسة الإلهية بالبشرية قد تم وفق تخطيط لم يترك منفذا للصدفة. برعت فيه عقول شيطانية، زادها الإعلام والتكنولوجيا شرا، وجدت في المقابل نوايا وطبائع ساذجة، هكذا، بات الفرد المسكين تحت رحمة آذان المخبرين متحالفة مع أقوى أدوات التجسس باعتبارها وسائل علم الغيب الجديد. بعدما كان تحت رؤية الإله وحده. والذي أعتقد أنه كان أكثر رحمة وتلطفا ورعاية لعباده.

ولقد عبر الأدب عن هذا الموقف أجمل وأبلغ تعبير، إذ لخصت الحال برمته إلماعة سردية، قدمها جورج أورويل في روايته "1984"، حين ألح على وضع صورة حاكم الدولة أو الأخ الكبير في جميع أرجاء ومرافق البلد. ليتيقن المواطنون بقدراته الخارقة ويُسبحونه لأنه الناطق الرسمي الجديد باسم الغيب. في تشبه لقيط بخالق يقول لكل شيء كُنْ فيكون.