الحراك اللبناني وآفاق التغيير

الحراك اللبناني وآفاق التغيير

08 يناير 2019
+ الخط -
كانوا قديماً يقولون إذا أمطرت في موسكو يحمل الرفاق في لبنان المظلات.. هذا ما يحدث الآن في لبنان من احتجاجات عمالية لأصحاب السترات الصفراء، ولكن العدوى جاءت من فرنسا الأم الحنون، ومن بادر إلى التحرك هم الرفاق الشيوعيون أصحاب الطليعة، والذين لا يهتمون للحسابات الطائفية والتقسيمات الدينية بوصفهم تنظيما علمانيا، ولكن هل يمكن القفز فوق كل هذه الحواجز لإنجاز تغيير ما في لبنان.

كان لنا أستاذ حريات عامة في الجامعة اللبنانية اسمه ميشال رياشي وعندما كان يتحدث عن الحريات العامة وما يقوله روسو يستطرد ليتحدث عن وضع لبنان ثم يقول: أنا أعلم أن كلامي يجعل كل واحد منكم يتحرق تأهباً للتحرك ضد الحالة المهترئة لوضع البلد ولكنكم 410 طلاب، تمسك بكراسيكم 410 حالات مذهبية وقبلية وطائفية وعشائرية وجهوية وقروية تمسمر من مسمار كراسيكم وتمنعكم من التحرك، لو أنني استطعت تحريك 410 طلاب جامعيين فقط لكنا بخير.

كان الدكتور ميشال محقاً، ولقد بلغت من العمر الآن مرحلة أستطيع بسهولة أن أرى فيها أن الأمور لا تكون أبداً ابنة ساعتها، ولا يمكن إجراء تغيير في بلد وضعه معقد كلبنان وتحكمه تسع عشرة طائفة، فكيف سنتمكن من تحقيق التغيير ونحن لا نتفق حتى على الأساسيات التي يجب أن يبنى عليها البلد.

حين يتكلم الإسلام عن العقيدة قبل الحديث عن الشق الإجرائي المتمثل بالمعاملات والعبادات، فهو يتحدث عن علم بالطبيعة البشرية وكيفية تركيبتها.

فلا يمكن أبداً تحقيق التغيير المعيشي من دون النظر إلى الأسباب العميقة التي أدت إلى ذلك، وهي أعمق بكثير من مطلب تحسين الأجور أو تحفيزات وضمانات اجتماعية.

النظام اللبناني كله يحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية، وأكاد أزعم أن ما أدى إلى نجاح صيغة ميثاق 1943 بين بشارة الخوري ورياض الصلح، أن البلد وهبه الله ذاك الوقت زعيمين يتمتعان برؤيا وكاريزما قادرة على استشراف القادم والتخطيط الصحيح له، فوضعا رؤية صائبة للنهوض بالبلد وتجنيبه ويلات المعسكرين.


فكان لبنان حلقة وصل بين المحيط العربي وغير العربي. أما الآن فقد تحول لبنان إلى ساحة من ساحات المعارك التي يتصارع عليها أنصار الفريقين، وكان لكل زعيم أنصاره الذين يطيعونه، أما الآن فقد تعددت الزعامات ولا أحد يملك رؤية واضحة واقعية لما يجب أن تكون عليه الأمور. والكل يتصرف بمنطق الحسابات الآنية المتجاهلة كلياً لمصلحة البلد، مقابل مصلحة الجماعة والطائفة والأحزاب وحتى الشخصية بدون أي اكتراث إلى المصير الذي يذهب إليه أتباعه وطائفته. فبعض زعماء لبنان مستعد لأن يحرق البلد لإشعال سيجارة.

إن إعادة إخراج لبنان من الزجاجة التي أدخل فيها هي ببساطة تتمثل في التفكير بواقعية بعيداً عن الحزبيات والانقسامات الداخلية، وأول ما يتجلى ذلك في محاولة إعادة التطبيع الاقتصادي مع النظام السوري، وقبل أن يطلق أحدهم علي النار لوجهة نظري التي قد يظنها بعضهم تسليماً مني بالواقع القائم، وهو انتصار النظام، إلا أنني أرى أن المعركة أطول بكثير مما نظن، ولكي تتمكن الثورة السورية من تحقيق اختراق ما يلزمها الكثير من الوقت والكثير من التغييرات التي لسنا بوارد الحديث عنها هنا.

وأود التذكير هنا أن واقعية داعش مثلاً هي التي جعلتها تبيع كل الأطراف المتصارعة نفطاً رغم خصومتها مع الجميع. وكذلك يجري الأمر على الواقعية التركية في التعامل مع الأوضاع المعقدة المحيطة بها.

فهل يجب أن تكون داعش أو تركيا أكثر حرصاً من اللبنانيين على مصالحهم، أم يجب أن ينظر اللبنانيون إلى مصالحهم الآنية بانتظار تغيير قد يطول انتظاره.

فما يجري في سورية طويل الأمد وانتكاسة الثورة السورية الحالية - وقد يحلو لبعضهم أن يظنها نهاية، وأنا أزعم أنها انتكاسة بدليل الجمر الذي يقبع تحت الرماد وظهر الأسبوع الماضي في حراك درعا- قد تطول بانتظار تحقق التغيير المطلوب في هيكيلة قيادة الثورة السورية وهو أمر قد لا نراه قريباً. وإيماني الحتمي بنصر الثورة أن الظروف الموضوعية لم تتغير وكل ما يلزم هو قيادة تملك بوصلة صحيحة وتعرف كيف تحرك الأمور بعيداً عن أهواء الممولين.

ولذلك يجب أن يفك الخناق على لبنان والتفاوض الاقتصادي مع النظام لفتح الطريق أمام المنتجات اللبنانية، وإلا فإن لبنان سيستمر في الاختناق البطيء حتى الموت.

قد يتساءل بعضهم ما علاقة هذا بذاك؟ وسأقول لكم ببساطة كيف يمكن أن يفكر شخص بطريقة صحية في التغيير أو يستشرف آفاقه وأنت تقطع الأكسجين عن دماغه. فإن لم تتوقف عن الضغط على "زمارة رقبته" كما يسمونها في العامية فلن يتمكن من التفكير السليم، وهذا حال لبنان الآن بالضبط.

وعلى هذا فإنني أدعو الجميع وليس الرفاق الشيوعيين إلى ضبط تحرك مظلاتهم تبعاً لما يجري في سورية، لأن سماءنا تمطر دائماً حسب التوقيت السوري الذي كان لبنان ولا يزال جزءاً منه، مهما تعاقبت الأنظمة، ولا أحتاج إلى سرد الأدلة ليدرك الجميع صحة ما أقول.
7F7C2416-B720-4906-ACFE-73D4127D7B5F
حسن علي مرعي

درست الشريعة في "أزهر لبنان"، فرع البقاع، ثم درست الحقوق في الجامعة اللبنانية، وأتابع دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في معهد ماستشوسش التقني وجامعة وست فرجينيا..أهتم بالأدب، شعره ونثره بالإضافة إلى العلوم السياسية والتاريخية، ولا يقلل هذا من اهتماماتي بالتاريخ أو بالاقتصاد وسائر العلوم الإنسانية الأخرى.