الكذّاب وزيراً للإعلام

الكذّاب وزيراً للإعلام

20 اغسطس 2018
+ الخط -
قلنا لصديقي المنحوس "أبو سلوم" إنك، في الحقيقة، أشبه ما تكون بالزئبق الذي لا يمكن إمساكه باليد، أو النظر إليه طويلاً بالعين المجردة، وبصراحة نحن غير قادرين أن نستند على روايتك لحادثة تحكيها لنا، لأننا، حينما نطلب منك أن تعيد علينا واحدة من حكاياتك التي سبق وسمعناها منك فإنك تقدمها لنا بطريقة أخرى، وتضمنها أحداثاً أخرى، وتغير خاتمتها التي نسميها في لغة القصة القصيرة (القفلة)، فتغدو وكأننا نسمع حكاية أخرى.

ضحك وقال: ألا تعرفون السبب؟
قلنا: ما هو؟
قال: أنا آخذ الحادثة الواقعية وأضيف عليها الكثير من التفاصيل والـ (بهارات) حتى تتغير معالمها، وأحياناً تمشي القصة في سياق آخر غير السياق الذي سارت فيه القصة الواقعية، ووقتها تضيع الطاسة وتقعون في حيص بيص.

قال له أبو عمر: يا أبو سلوم، أنت ليش ما بتسمي الأشياء بمسمياتها وبتقول أنك (تكذب) علينا؟

قال أبو سلوم: لأنني أراعي الدقة في المصطلحات، ولعلمك فإن الكذب نفسه ليس على سوية واحدة، فهنالك أناس يكذبون بغباء وسذاجة، وآخرون يخترعون قصة لا وجود لها في الواقع، وحينما يروونها يبلغون قمة الروعة والإبداع، وأنا أعرف شخصاً يكذب ببراعة كبيرة، وأثناء سماعنا للقصة نكون موقنين أنها ملفقة، ولكننا بين الحين والآخر نوشك أن نصدقها.

قلت له: والله هذا شيء نادر. هل بإمكانك أن تعرفنا عليه؟
قال: لا والله. لا أستطيع. فقد انقطعت أخباره عني زمناً طويلاً وقيل لي إنه سافر إلى دمشق، وبعد حوالي عشرين سنة سمعت أنهم عينوه "وزير إعلام"!
قلت: طيب، أنا أريد منك أن تعيد علينا حكايتك مع النجار أبو عمر الذي أرسلك إلى دمشق لتشحن له كمية من الخشب بالسيارة الشاحنة التي تعمل عليها سائقاً، وكيف استوقفتك دورية من الأمن الجوي عند مفرق معرة النعمان وصادرت الأخشاب وسجنتك ثلاثة أيام.

قال: الحقيقة أنني لم أذهب إلى الشام وحدي، بل اشترطتُ على "أبو عمر" أن يرافقني لئلا أتحمل أنا المسؤولية وحدي، والدورية لم تستوقفني في مدخل معرة النعمان، بل عند المدخل الجنوبي لمدينة حماه، وهي لم تكن تابعة للأمن الجوي، بل للأمن العسكري، وقد أخذوا منا مفتاح السيارة، ووضعوا أيدينا خلف ظهرينا، وأوثقوها، وظلوا يدفعوننا من الخلف إلى أن وصلنا إلى مهجع (كاووش) كبير، مليء بالمعتقلين من شتى الألوان والأشكال.. ومع أن الخشب الذي كنا ننقله في السيارة كان أبو عمر قد اشتراه من مؤسسة حكومية، ويحمل في جيبه فاتورة نظامية، إلا أن رئيس الدورية مسح مؤخرته بالفاتورة وأخذ السيارة ومضى.
وبالنسبة لنا، أنا وأبوعمر، زربنا في المهجع (الكاووش)، والمعتقلون تقدموا منا من كل جانب، وسألونا، بصوت واحد:
- شو تهمتكم أنت وهو؟
قلت لأبي سلوم: وشو جاوبتوهم؟
قال: كان أبو عمر على وشك أن يفقع من شدة القهر، فقال للمعتقلين بسخرية مريرة:
- والله يا شباب نحن هنا بلا أي تهمة، ولكن (كَلْفَشَتْنا) المقادير إلى هنا لترى هذه الوجوه النَيِّرة!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...