الحج مع سبق الإصرار والترصد

الحج مع سبق الإصرار والترصد

19 اغسطس 2018
+ الخط -
يحكي صديق لي قصة لها العجب، وكلما ذكرها راوده الطرب، واستهل الحديث قائلًا: من صدق الله في الأمور نجا، والقصة لشاب كان يعمل بمدينة الرياض، وأراد أن يزور بيت الله الحرام. حلم كل مسلم على وجه الأرض، وهو حلم مشروع للجميع، لكنه غير متاح للكثيرين لظروف شتى، وكانت عقبة الخروج إلى البيت الحرام هي الكفيل.

أحيانا يلعب الكفيل دور "مرات الأب" مع الوافدين، ولأن الكفيل يدرك تمامًا أن الحج غاية من أسمى غايات الوافد؛ فلذلك يصر بعضهم على أن يؤدي الوافد المناسك بعد انتهاء عقد العمل، ولا ندري كيف يضمن هذا الكفيل أن يعيش الوافد حتى ينهي عقده ثم يأذن له بالحج! على أن هذا الشاب عرف عنه التحدي والمغامرة؛ فقرر أن يخرج للحج رغم أنف الكفيل، ولم يكن الأمر سهلًا؛ فالكفيل حجز الراتب بعد عيد الفطر مباشرة، وتعلل بظروف السوق ووعد بتسليم المستحقات بعد موسم الحج، وفهم الشاب أن الكفيل يماطل ليضيع عليه فرصة الحج، وليس أمامه خيارات أخرى إلا أن يرضخ للأمر الواقع.

لكن صاحبنا عقد عزمه على أداء المناسك، وهو ينتظر هذه الفرصة ببالغ الصبر، وفي قلبه من الأسرار والمناجاة ما الله به عليم، وكل همه أن يلهج لسانه بالدعوات المخزونة في سويداء قلبه بين الركن والمقام، وأن يردد نفس الدعوات في منى وعلى عرفات الله، وفي الروضة الشريفة، لكن يبدو أن الحلم بعيد المنال؛ فلا يملك من المال ما يبلغه مطلبه، وزاد الهم وأشجاه أن الكفيل استدعاه وأخذ منه الهوية (تصريح الإقامة) بدعوى استخراج أوراق هامة طلبتها البلدية.


لا مال ولا أوراق ثبوتية؛ فكيف يقطع المسافة من الرياض إلى مكة المكرمة؟ وزفر زفرات ألهبت صدر النسيم العليل من حوله، واغرورقت عيناه بالدموع السوداء، وللأقدار طريق لا يحتاج أوراقا ثبوتية ولا إجراءات روتينية.

يمرض الشاب في الخامس من ذي الحجة، ويصرّح له الطبيب بإجازة مدتها أربعة أيام، ويعود إلى سكن العمال خائر القوى وفي كبده حسرة من فقد كل شيء. يدخل صاحبنا نوبة من السرحان الممل، ويغرق في التفكير دون طائل، وفجأة يقطع رنين الجوال ضجيج تفكيره، ويخبره أحدهم أن صديقًا قضى في حادث سير في محافظة الدوادمي، وتقع في الطريق بين الرياض ومكة، ويجب أن يذهبوا لحضور مراسم الدفن.

بعد مدة جاءه الرجل وقصدا الدوادمي، وهناك جرت مشادة بين غريبين على الطريق، لم يكونا ممن اشتركوا في الجنازة، بل كانا ضمن قافلة تقصد البيت الحرام، وأقسم أحد الرجلين بأغلظ الأيمان ألا يحج مع تلك القافلة، وصاح في الناس: لقد حججت العام الماضي، ولا حاجة لي بالحج مع هذا السفيه. نفض صاحبنا عن كاهله وجع المرض، وطفق يسأل عن مشرف القافلة، وسأله أن يصحبه معهم إلى بيت الله الحرام، لكن المشرف عن الرحلة سأله أول ما سأله: هل في حوزتك أوراق ثبوتية؟ فأجابه منكسرًا: لا؛ فرفض الرجل رفضًا قاطعًا، وقال: هذه مسؤولية وفيها خطورة عليّ، وأنت لا تقبل لي الضرر؛ أليس كذلك؟!

وبعد أخذٍ ورد، وتدخل بعض الطيبين، وافق المشرف على مضض، واشترط أن يستلم رسوم الرحلة قبل أن تطأ قدم صاحبنا القافلة؛ فأخرج كل ما في جيبه، وشاء ربك أن يغطي المبلغ رسوم القافلة، ودخل صاحبنا مكة العامرة وفي قبضته أربعة ريالات سعودية، ويرن في أذنه قول الصادق الأمين: "ماء زمزم لما شرب له"؛ فشربها سائلا الله أن يقطع عنه الجوع في جملة ما سأل، وكفاه الله أذى الجوع والعطش، ورأى من الله ما لم يخطر على باله من اللطف والعناية، وعلى عرفات الله مد إليه أحد الحجيج برتقالة، وبعد مدة ناوله آخر تفاحة، لا يعرفهم ولا يعرفونه؛ بل لا يتكلمون لغته ولا يعرفون عن أمره شيئا، لكنه لطف الله ومشيئته التي تسيّر الكون.

وكانت لصاحبنا في أرض الله الحرام قصة لها العجب على حد قول صديقي، وما أجملها من قصة، وأكرمه الله بواسع فضله وعظيم منته، انتهى الألم وبقي رحيق رحلة الحج، وزالت التباريح حين لبى مع القادمين من كل فج، ولا يزال صديقي كلما ذكر هذه القصة، اختتمها كما بدأها بقوله: من صدق الله في الأمور نجا.

دلالات