أزرار مهمّة... بالتأكيد ستنفعني يوماً ما!

أزرار مهمّة... بالتأكيد ستنفعني يوماً ما!

17 يونيو 2018
+ الخط -
يقولون إن ما لم تستخدمه من أشيائك في خلال السنة ونصف السنّة الماضية، لن تستخدمه غالباً أبداً.

في إحدى غزوات ترتيب خزانة ملابسي، قبضت على نفسي متلبسة بإعادة طي أحد فساتين حملي في ابني البالغ من العمر وقتها زهاء خمسة عشر عاما! يا الله! أحتفظ بملابس مرّ عليها خمسة عشر صيفاً ولم تمس! داهمتني الفكرة وصدمتني!

سارعت بفرد الفستان لأرى سبباً وجيهاً لاحتفاظي به لعقد ونصف العقد من الزمان بلا فائدة، وتذكرت السبب عندما وقعت عيني على أزراره. كانت أزرارا غالية وضعتها له ليصلح كفستان سهرة لحامل في شهرها الأخير. والظاهر أنني كلما هممت بالاستغناء عنه، ضننت بالأزرار، وأعدت طيّه وتخزينه مع غيره في انتظار وقت ستحين فيه الاستفادة من الطاقة الكامنة لأزراره بشكل مبهم ما! ولم تحن تلك اللحظة الفارقة أبدا!


هل هذا كل شيء؟ حسنا.. سأعترف أكثر.. يومها عثرت على العديد من ملابسي أيام زواجي! وإذا كنتَ ممن يتفهمون ولا يسارعون بإلقاء التهم والأحكام، فربما ستقدر بالتأكيد مشاعر سيدة مسكينة تتشبث بأمل فقدان الوزن لدرجة الوصول لوزنها يوم زفافها.. ففي عقلي الباطن ما زالت الستين هو وزني الطبيعي.. والذي حتما سأعود إليه مهما تُهت في دروب السعرات الزائدة!

في بيتي، وبالرغم من سمعة الترتيب والنظافة، ترزح الشقة تحت عبء تخزين عشرات الأشياء التي يمكن التخلص منها، والتي لا أملك سببا وجيها لإبقائها لسنوات وسنوات، والتي أصبحت الآن همّاً مقيماً يعيق أية خطة لإعادة الديكور أو حتى للتنظيف العادي. وأنظر حولي في كل مكان لأجدها مشكلة عامة في البيوت وفي أماكن العمل وحتى في الأماكن العامة. فدخول محطة رمسيس بالقطار من الإسكندرية كفيل بتأكيد أن هيئة السكة الحديد تعاني مثلي وزيادة.

فكميات الخردة الملقاة على جانبي المحطة دليل على امتلاء المخازن عن آخرها، وعلى استمرار الرغبة في التخزين غير المثمر. أو هو عجز عن إدارة الفوائض بحيث تكون سببا في تشويه شكل محطة القطارات الأم بهذا الشكل.

في أحد نقاشاتي مع مجموعة أصدقاء حول البعد النفسي وراء مثل هذه الظاهرة، حاول أحدهم ربط الموضوع بالفقر وقلة الإمكانيات، مما يحدو الناس لتخزين الفوارغ والورق والملابس البالية علّها تنفع في أيام الضيق التي يتوقعونها دائما. لكن المثير أن هؤلاء غالبا ما يستعملون ما يجمعونه ولو بعد حين، حتى ولو ببيعه لمشتري الروبابيكيا والانتفاع بثمنه الزهيد. وهؤلاء مهما جمعوا لا تؤهلهم إمكانياتهم الضعيفة للتخزين الرهيب الذي نراه في شقق القادرين.

كثير من المنتسبين للطبقة المتوسطة المتعلمة بشرائحها المختلفة يحتفظون بمراوح ومسجلات كاسيت وفيديو من السبعينيات والثمانينيات! بل وقطع غيار موتورات ثلاجات وغسالات قديمة تخلصوا منها بالفعل! أو ردياتير سيارة قديمة مثلا! أو ملازم دراسية لأبناء تخرجوا منذ سنوات! ناهيك عن كميات غريبة من الوسائد والسجاجيد والدواسات والبطاطين "الزيادة" والتي تقبع في كل مكان ممكن في انتظار اللحظة التاريخية التي سنحتاجها فيها.. والتي لا تأتي أبدا!

أقرأ عن نوع من السلوك المرضي المعروف بالاكتناز القهري compulsive hoarding وهو سلوك وسواسي يمتنع فيه المريض عن التخلص من أي شيء يقتنيه، فيتحول مكان إقامته بمرور الوقت إلى ما يشبه مخزن نفايات بائساً لا موضع فيه لقدم.

رأيت بعض المتابعات التليفزيونية لأمثلة كهذه على قنوات أميركية وكنت أشفق على أشخاص حوّلوا حياتهم بأيديهم لجحيم لا يطاق! يحتفظون فيه بأكوام ملابس تطال الأسقف، وعلب وكراتين فارغة لكل شيء، وكتب وأجهزة وأثاث ومفروشات.. بل وطعام مقدد ومتعفن! ثم يحاورون المريض لتجد شبح إنسان تنبئ حدقتاه الذابلتان عن درجة قلق وإنهاك فوق الوصف.

حالة مرضية تحتاج إلى تدخل سريع قبل أن يغرق صاحبها في أطنان النفايات التي يعيش بينها بأي حادث حريق أو سقوط أو اختناق! وبالطبع تلك حالة سلوك مرضي ونقطة متطرفة على طيف سلوكي واسع ليس كله مَرَضيا بالضرورة.

لكن تبقى أسباب مثل هذا الميل للتخزين تدور في دوائر القلق والتوتر والكسل. فالتخلي قرار قد يكون أصعب كثيرا من الحفظ، ويتطلب تفكيرا ووقتا مما يدفعنا لحفظ الشئ من باب الاستسهال.

لاحظت أنني كلما تخففت من عبء الأشياء حولي، كلما صفا ذهني، وشعرت بالجمال، وارتفعت معنوياتي. لذلك نسعد في المصايف وفي المنتجعات والفنادق حيث الحد الأدنى من "الأشياء".

أظنه نوعا من التخفف وتجلي الحواس كالذي يحدث في الصيام مثلا. وهناك دراسات عديدة حول فكرة مكافحة الامتلاء بكل معانيه في سبيل استجلاء أقوى للجوانب الروحية التي يطمسها الشبع.

الحياة الحديثة مليئة بأطنان التفاصيل المتعبة والمستهلكة لحواسنا كلها، والاستغراق داخلها وحولها يعمل على سد مسامنا وإفقادنا حساسية تلك الحواس. ونحن في زمان نحتاج فيه إلى التوازن وسط أتون فتن وعواصف عاتية. ناهيك عن شعور مستمر بالذنب أننا نكدس ما يمكنه تيسير معيشة الكثيرين لو تركناه لهم. فكلمتي هنا لنفسي أولا وللجميع:

تخففوا وتخلوا وتوقفوا عن التخزين وتبرعوا بكل الفائض.. كله..، "وفي السماء رزقكم وما توعدون". يقول الملك الوهاب أن في السماء متناهية الاتساع وعد برزق بلا حدود.. فلنصدقه.

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى