آمال... ورغبات جامحة!

آمال... ورغبات جامحة!

27 مايو 2018
+ الخط -

دُهش الكثيرون بما آلت إليه حالُ حميد، وهو ابن الخامسة والثلاثين ربيعاً، الذي لطالما كان يحلمُ بسفر ما خارج حدود بلده، يُعيد إليه روح الحياة، وعلاقاته الطيّبة مع الناس..

وبمجرد عودته من رحلته الأخيرة، التي لم تستغرق يومين على الأغلب، ما جعل البعض من معارفه وأصدقائه، وحتى أقاربه، يتهامسون خلسةً ويضحكون على أفعاله التي يعتبرونها مشينة، بعرفهم، وهو الباحث والمجتهد عن السفر، والمتعلّق به منذ نعومة أظفاره، إلاّ أنّهم، وبتكوينهم أرادوا أن يقولوا له، هكذا وبكل بساطة، وقلة حيلة: أنت تجهل ما تريد، والسفر الذي تحلم به وتتغنّى، وإن كان متوافراً لك لا يمكن أن يُحقق لكَ طموحك وأهدافك، مهما سعيت في هذا الاتجاه، فاترك شأنه لغيرك لأنه ليس بمقدورك أن تُفلح فيه. يلزمه أفراد سبق لهم أن عانوا ضنك الحياة، ويأسوا منها!

في هذه اللحظة التفت إليه فرحان، وهو صديق حميم تربطه بحميد علاقات ودّ واحترام متبادلين، وقال له، في لحظة كان فيها حميد مستغرقاً في مشيته، بعيداً عن الآخرين، تراه منسجماً مع نفسه، ومحترماً شخصه، لم يُحاول يوماً، ولو لمرّة واحدة إتيان الآخرين بأيّ سوء.

ـ الحمد لله على سلامتك. لم تتأخر علينا كعادتك. إن شاء الله حقّقت بعض رغباتك.
قالها بسخرية، مصحوبة ببعض اللوم والعتب.



لم يُعر حميد تساؤلات فرحان الخبيثة المبيّته أيّ اهتمام، بل تركه يُحدّث نفسه فيما التفت إليه البعض من الجوار ممن لاحظوا عدم اكتراثه لسؤال فرحان، في الوقت الذي استمر فيه حميد من متابعة مسيره إلى عمله الذي يُهيمن على مجرى حياته، ويوظّف له جلّ إمكاناته ليؤكد للآخرين مدى أهميته بالنسبة له، ومحاولاً تحقيق نجاحاته المتكرّرة التي يُحاول الكثير ممن يعرفونه فرملتها، متقصّدين ذلك لتمرير الدسائس التي تؤجج العلاقة الوجدانية مع بقية معارفه وأصدقائه.

في هذه الأثناء، حاول فرحان، وهو الحالم بغدٍ أجمل، والراغب في السفر إلى دول الخليج أن يتسمّر مكانه، في ضوء تصرّفات زميل الدراسة الذي لم يُبالِ بحديثه الذي أراد أن يقوله، وبطريقة خبيثة: سألقنك درساً لن تنساه ما دمت حياً.

محاولات فرحان باءت بالفشل، حيال صديق طفولته، وفي أكثر من مرّة تراه مبتعداً عن أحاديثه، ولم يجد فيها أية رغبة للتواصل معه، بل إنه يحاول الابتعاد عنه وعدم المساس به، لأنه يعرف ماذا يخبئ له من دسائس وأحقاد دفينة، ونوايا سيئة لم تغب عن ذهن حميد المتوقد.

وفي لقاء حميد الجانبي مع أحد المسؤولين العاملين في إحدى الدوائر الحكومية، الذي استغرب وجوده بهذه السرعة داخل المبنى الحكومي، وهو في وقت كان فيه من المفروض أنه مغادر المدينة إلى إحدى الولايات الأميركية.

سأله صديقه المسؤول، وبتحفّظ:
ـ ما مبرّر عودتك المفاجئة؟
أجابه بامتعاض:
ـ كانت هناك بعض الظروف القاهرة ما ألجأني إلى إلغاء تذكرة السفر لعدّة أيام لأسباب صحية طارئة، استدعاني إلى الامتثال للعلاج، وهذا يحتاج مني إلى راحة قد تطول أو تقصر، لا أقدر أن أحدّدها على وجه التحقيق.

الأستاذ ناصر، وهو معاون مدير إحدى الدوائر الحكومية، الصديق الحميم لـ حميد لم يقتنع بهذه الذرائع الواهية، بدليل أنَّ حميد، وكما هو واضح، لم يلاحظ عليه أي علامة من علامات المرض، أو حتى وعكة صحية بسيطة تدفع به إلى أن يؤجل سفره.
ـ أنت تمزح بالتأكيد. هذه مبرّرات تُحاول إقناعي بها لتبرير عودتك السريعة.
غيّر حميد من جلسته بعد أن كان متخذاً في كرسيه أريحيته، وهو يحمل في يده مجلته الأسبوعية التي يراسلها، ويحرّر فيها واقع الحياة التي يعيشها أبناء مدينته، والوقوف على مطالبهم الملحّة، أضف إلى أنه يقوم بتوزيعها على المشتركين بها، وقال في نفسٍ شابَه ضيق لم يُعجب صديقه المعاون الذي يعمل في الإدارة الحكومية.
ـ ماذا قلت؟
وتابع بحذرٍ شديد.
ـ ماذا تقصد من كلامك هذا؟
نعم، سافرت ليومين وعدت. السبب ظروف الطقس السيئة، هناك في بيروت، ما استدعى تأجيل موعد سفري المحدّد لي إلى يوم آخر.

خرج حميد من غرفة صديقه ناصر مسرعاً، وهو غير مصدق ما حدث، متألماً من هذا الموقف، ومن كلامه المحرج الذي صدر من صديقه المهندس الذي يكنُّ له محبةً خالصة، وفيها من الاحترام ما يكفي.

تركه مودّعاً، ومذكراً إيّاه بأنه سيلجأ إلى تأكيد الحجز، في أقرب وقتٍ ممكن، والسفر بعيداً بلا أمل يُرتجى بالعودة، متحمّلاً مشاق الرحلة، وهرباً من أصدقائه ومعارفه الذين لا ينفكّون يستهزئون به، وبأحاديثه التي ينقلها لهم، موضحاً أبعاد السفر والصورة الجميلة التي رآها هناك، والتجديد الذي يطرح رؤية أخرى في هذا العالم، إلا أنّه ما زال يعيش، وللأسف، مع أشخاص من بني جلدته لا يدركون أبعاد ما تعلّمه، هناك، من خلال رحلاته المتعدّدة، المتعثّرة التي استمرت لسنوات وسنوات، وفي رضا نفسه أنه حقّق الكثير من الأماني والرغبات، واكتسب المعرفة، والعلاقات الوجدانية مع الآخرين، وتعلّم منهم..

إلا أنَّ بعض الصور ظلّت باهتة في ذهن كل من صديقيه فرحان وناصر اللذين يُلحّان عليه بالسؤال، محاولين معرفة النتائج المادية التي جناها من سفره المتواصل، وهو المدرك تماماً أنَّ المكسب الوحيد، وبحسب قناعته، تعلّمه أشياء كثيرة من هذه المدرسة، على طول فترات سفره الذي امتد لأكثر من خمسة عشر عاماً قضاها في الركض خلف أبوابه المغلقة.

استمرَّ حميد في ركضه، مهرولاً للحاق بركب الطائرة والتمتّع بمضيفاتها، وما يُقدم فيها من وجبات طعام تثري الشهية، والتوجّه بعيداً، في عالم رحب وواسع يبحث عن ملجأ يُخفّف عنه وطأة تساؤلات أصدقائه ومعارفه الذين، رغم دفعهم للكثير من المال في أوجه عدّة، لقاء الفوز بتأشيرة دخول إلى ذاك العالم الحلم، إلاّ أنّهم، فشلوا في إصرارهم، وما زالوا بانتظار عودة صديقهم الذي انتظروه سنوات، ومحاولاتهم الميؤوس منها في اللحاق به، تاركاً لهم حب الوطن، والرغبات الجامحة الدفينة التي تناسوها مع مرور الوقت.

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.